سلمان زين الدين ل أندبندت عربية الخميس 29 سبتمبر 2022 16:39
غريب هو العنوان الرئيس “شوينغوم” لرواية الروائي الجزائري أمين الزاوي، الصادرة أخيراً عن “منشورات ضفاف” في بيروت و”منشورات الاختلاف” في الجزائر، ذلك أن “شوينغوم” كما يرد في المتن هي “العلكة الأميركية الشهيرة برائحتها القوية العطرة ذات المذاق السكري المنعنع والنكهة الحارة قليلاً” التي راح الجنود الأميركيون الذين نزلوا في قرية بوزواغين الجزائرية خلال الحرب العالمية الثانية يوزعونها على أهالي القرية، فأدهشتهم وراحوا يدمنون مضغها في كل حين (ص 45)
وإذا ما علمنا أن واقعة النزول الأميركي بالقرية وتداعياتها تشغل جزءاً يسيراً جداً من المتن الروائي، نستنتج أن إطلاق هذا العنوان الغريب على المتن الروائي يندرج في باب تسمية الكل باسم الجزء ولو كان يسيراً جداً، ولعل الترجمة الروائية لهذه التسمية تحيل إلى ما يقوم به المستعمِر من عمليات إلهاء للمستعمَر، فيصرفه عن الكلام والفعل ويشغله بسفاسف الأمور ليتسنى له تمكين استعماره
الخلفية التاريخية
تشكل المدة الزمنية الواقعة بين عام 1942 الذي نزل فيه الجنود الأميركيون في مدينة وهران الجزائرية خلال الحرب العالمية الثانية، وعام 1992 الذي اندلعت فيه أحداث العشرية السوداء في الجزائر إثر قيام السلطة الحاكمة آنذاك بإلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الإسلاميون، الخلفية التاريخية للأحداث، بمعيشها والمتذكر منها، وهي مدة طويلة تربو على نصف قرن وتتخللها أحداث كبرى من قبيل “الحرب العالمية الثانية” و”حرب التحرير الجزائرية” و”العشرية السوداء” وغيرها، وتشهد فيها الجزائر كثيراً من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
رواية أمين الزاوي ( ضفاف والإختلاف)
في هذه الخلفية تدور أحداث “شوينغوم” وتتراوح بين مدينة وهران في شقها المعيش، وقرية بوزواغين في شقها المتذكر، وتنخرط فيها مجموعة من الشخصيات الخاضعة بمعظمها للظروف التي تنشأ فيها وتتحكم بخياراتها إلى حد كبير، فهي مسيّرة أكثر منها مخيّرة، تحمل أعطابها الموروثة أو المكتسبة وتحاول التخفف منها بوسيلة أو بأخرى
شخصيات مسيرة
لذلك نجد بينها الصحافي والشاعر والمثقف اليساري المسكون بالغيرة منذ نعومة أظفاره، الممثلة المسرحية التي دفعتها الظروف إلى درس التمثيل بدلاً من الموسيقى التي تحب، الموظفة التي تحول العادات دون ارتباطها بمن تحب وتضطرها إلى الارتباط بآخر لا تحبه، الطبيب النسائي الذي يحول التشدد الديني بينه وبين ممارسة عمله، الخالة صفية الغامضة الجميلة القوية التي يحمل العنوان الفرعي اسمها وتحول مجريات الأحداث من دون تحقيق أهدافها، فتكتفي بالاحتجاج على هذه المجريات قبل انسحابها إلى أحد الكهوف، والأم التي تغار من أختها حتى التمني لو لم تكن موجودة وتصاب بمرض نفسي بوجودها، وتنهار أعصابها حين تسمع بإمكان عودتها من غيابها الطويل الغامض، وغيرها من الشخصيات.
على رغم أن العنوان الفرعي في “شوينغوم” يوحي بأن الأحداث تتمحور حول الخالة صفية عمران التي يقوم الروائي بأسطرتها من خلال الصفات التي يصفها بها والدور الذي يسنده إليها، فإن ما يشي به المتن يوحي بأن الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية هامان بن زياد، الصحافي والشاعر والمثقف اليساري، في الشكل والمضمون
في الشكل يسند إليه الزاوي سرد 27 من أصل 32 وحدة سردية أي ما نسبته 82 في المئة من وحدات الرواية، وفي المضمون ينخرط في الأحداث من موقع الشاهد عليها أو المشارك فيها، فنتعرف إلى شخصية مركبة ترزح تحت رواسب الماضي ولا تستطيع التحرر منها، وتعيش داخلها أكثر مما تعيش في الخارج، وتتحكم بها أشكال مختلفة من الغيرة المرضية، فهامان الطفل يغار من أخيه التوأم مصطفى الذي سبقه إلى الحياة والموت، ويشعر بالذنب لأنه يعتبر أن غيرته منه هي التي تسببت بموته، وهامان الفتى يغار من أخيه الكبير سيدي مومن لاحتكاره السلطة في حضور الأب ولحؤوله دون أن تنمو علاقة الحب الوليدة بينه وبين قميرة ابنة عمه حسين، وهي التي كان يرغب فيها وترفضه، وهامان الشاب يغار من الممثل المسرحي ناصر النقاش الذي يلعب دور يوسف الصديق في مسرحية “هيت لك” حين تقوم زوجته الممثلة المسرحية مسيكة بنت الرومية التي تلعب دور زليخا بمراودته عن نفسه وإغوائه، وتبدو كأنها تعيش الدور ولا تلعبه، وتتحكم به هذه الغيرة الأخيرة فيثابر على حضور العروض الـ 20 للمسرحية في مسرح المدينة في وهران، ويتنمر من الغيرة العمياء وتحدثه نفسه بقتل يوسف وزليخا تماهياً مع ما قامت به شخصيات أخرى، تاريخية أو روائية أو سينمائية أو حقيقية، في ظروف مشابهة
غير أن قيام أحد الإرهابيين بتفجير نفسه في العرض الأخير من المسرحية يضع نهاية مختلفة لنهاية السيناريو الذي كان يدور في رأس هامان، وبذلك يرسم الزاوي شخصية روائية معطوبة في صحتها النفسية تعيش اغترابها الماضي وتفشل في التكيف مع الحاضر ولا تربح المستقبل، وبهذا المعنى يشكل الخاص مرآة للعام في تحولاته الاجتماعية السلبية، مما سنأتي على توضيحه لاحقاً
الخالة صفية
على أن هذه التحولات تطاول الشخصيات الأخرى المتعالقة مع الشخصية المحورية بشكل أو بآخر، فالخالة صفية التي يحمل العنوان الفرعي اسمها تشغل القرية في حضورها وغيابها، والزاوي يقوم بأسطرة هذه الشخصية على رغم أنه يحرمها من حق الروي في روايته، ويسند إلى الرواة الآخرين التعريف بها
وفي هذا السياق فصوفية جزء لا يتجزأ من القرية، هي خالة الجميع وذاكرتهم، تحتفظ بأنوثتها على رغم اقترابها من الـ 60، تغار منها النساء ويعجب بها الرجال، وتنسج حول جمالها الحكايات، بارعة في تقليد الطيور بصوتها الجميل، ترحل مع الأميركيين الذين كانت تغني لهم عند رحيلهم، وتعود بعد حوالى 20 عاماً بزي عسكري وبندقية، مما يطرح فرضية مشاركتها في حرب التحرير الجزائرية. وحين تجد أن الفاشية الدينية قد استشرت من خلال تأليب الجماعات الدينية المتشددة على الأفارقة الوافدين إلى القرية لاختلافهم الديني في وقت تتغاضى هذه الجماعات عن تجارة النخاسة وتهريب الممنوعات وممارسة الدعارة المستشرية في القرية، تلجأ إلى الاحتجاج أمام ممثل السلطة المحلية موح البسكليت، وتغادر القرية إلى أحد الكهوف في إحالة روائية إلى تفضيلها الماضي المنقضي على الحاضر المستجد
وهنا أيضاً نكون إزاء تحول سلبي فردي آخر يتمثل في النكوص إلى الماضي هرباً من الحاضر، وهو تحول خاص كسابقه لكنه يعكس بدوره التحول العام السلبي في مجرى الأحداث. نتعرف في “شوينغوم” أيضاً إلى مسيكة بنت الرومية، زوجة هامان، المتحدرة من مستغانم لأم مسيحية جميلة تعمل مدرسة وأب مسلم يعمل بستانياً، ونزوعها الباكر نحو الاختلاف والتمرد وتأثرها بأمها ورغبتها في درس الموسيقى، لا سيما أن أباها أطلق عليها اسمها تيمناً بمغنية تونسية يهودية
غير أن الظروف تحول دون تنفيذ هذه الرغبة، فتدرس التمثيل بدلاً من الموسيقى وتنخرط في علاقة مع هامان بعد موت الأم وحاجتها إلى جدار تسند ظهرها إليه، وبذلك تجد في المتاح لها تعويضاً عن غير المتاح، وتبلي بلاء حسناً في التمثيل تهرب إليه من الحياة ووقائعها القاسية، وتجترح به حياتها الخاصة
اقرأ المزيد
أمين الزاوي يعبر تناقضات العالم في رحلة العثور على الحرية
أمين الزاوي يروي الحراك الجزائري في مرآة التاريخ
ولا يختلف مسار شريكها في المسرحية ومصيره كثيراً عن مسارها ومصيرها، فناصر النقاش الذي نشأ في كنف أم محبة تعمل قابلة قانونية في المستشفى الحكومي بوهران ومهووسة بخدمة الناس تحوطه بكثير من الرعاية، لا سيما في ظل غياب الأب الغامض، وتتيح له فرصة التعلم حتى يتخرج طبيباً نسائياً ويفتتح عيادته في حي بولانجي حيث يحتفي الجميع به ويقبلون على عيادته، غير أن الظروف تكون له بالمرصاد، فيقوم إمام المسجد بتأليب الناس على عدم إرسال زوجاتهم وبناتهم وأمهاتهم إلى عيادة طبيب رجل مما يؤدي إلى إقفال العيادة، وتكون الطامة الكبرى حين تموت والدته تاركة إياه لوحدته ومصيره والكتب التي يعكف على قراءتها في محاولة منه للوقوف على أسرار أمه الراحلة
ثم يشكل تعرفه إلى أستاذ المسرح والنقد المسرحي العراقي نور الدين فارس نقطة تحول في حياته تقوده إلى المسرح وتحقيق ذاته بالتمثيل، فيشكل التمثيل تعويضاً عن الطب. وهكذا لا تختار شخصيات الرواية خياراتها في معظم الأحيان وتخضع لمشيئة الأقدار، وتعيش تحولات سلبية تعكس التحولات الاجتماعية العامة، وتتمظهر في تحول بوزاغين من قرية وادعة خلال الأربعينيات من القرن الـ 20 إلى خربة ومركز تهريب وأعمال ممنوعة في التسعينيات من القرن نفسه. تحول الشباب من الفكر الليبرالي في السبعينيات إلى التشدد الديني في الثمانينيات، وتفجير أحد الإرهابيين نفسه في قاعة المسرح
هذه التحولات تجعل المنظور الروائي الذي يصدر عنه الزاوي في رؤيته إلى الواقع الجزائري، واستطراداً العربي، منظوراً سلبياً بامتياز
في “شوينغوم” يتنقل أمين الزاوي بين المشاهد السردية والأزمنة الروائية والأمكنة المختلفة برشاقة ويسر، ولوجود قرينة لفظية أو معنوية تستدعي الانتقال، مما يكسب نصه الحيوية والتنوع ويمنح روايته روائيتها المنشودة