مردوك الشامي
إذا مات الشاعر .. لا تحزنوا
كلنا لحظة نغادر الرحم، تبدأ رحلتنا مع الموت
كلَّ يومٍ نعيشهُ ، كلّ شمعةٍ نطفئها، كلّ خطوةٍ على التراب، كلّ حلمٍ بجناحين نركضُ خلفه، كل ابتسامةٍ هنا، ودمعةٍ هناك، كلُّ ذلك مجرد رحيلٍ يوميّ على صهوة الوقت، نحو المقبرة
مسيرتنا على هذه الأرضُ انتقالٌ بين رحمين ، الأول فردوسنا الحقيقي، حيث الكمال في العمر والبراءة ، حيث الفراشةُ تحط على أكفّنا بلا حذر، والدفءُ والصدقُ والمحبة الفاضلة، والثاني رحمٌ في الترابِ هو المحطة الأخيرة للجسد، بانتظار الختام الملتبس لمسيرة الروح
لن ألجأ الليلة لمبالغة الأفكار، وبلاغة الكلمات، وأقنعكم بأنّ الشعراء لا يموتون
ولن ألبس قفازين من قرنفلٍ وإدعاء، لأقول إنّ الشعراء ليسوا من الطين، وإنهم كائنات مجنحةٌ وأثيرية
سأكون صريحاً جداً، وأقول إن الشعراء هم أكثر البشر موتاً ، وأشدّ المخلوقات ارتباطاً بالتراب، والوجع، وفكرة الرحيل
ولا أدري هل الشعر بالنسبة إليهم نعمةٌ أم لعنة؟
الشعر نقطةُ ضعفهم تجاه العالم، وليس مطلقاً نقطة قوتهم كما يصوّر لنا الحالمون
مركزُ حساسيتهم المفرطة تجاه كل شيء، تجاه الألم، والقهر، والخراب، يجعلهم دائما أشبه برادار يستقطبُ كل كوارث الكون، ليقنعهم أنهم ضليعون بالتآمر على البهجة
لهذا الشعراء محزونون، تعساء، مخذولون غالبا، ومنكوبون، ولهذا هم دائما مشاريع ضحايا لكلّ شرّ على هذه الأرض، ولا أعني هنا جميع الذين يكتبون القصيدةَ والأدبَ، أعني الذين يكتبون الشعر ، فكم من قصائد نقرأ لا شعر فيها، وكم من أدبٍ يقدمه إلينا آلافُ المدّعين و لا يقربون الأدب أبداً
الشعراء الحقيقيون هم الذين أشير إليهم هنا، وهم الذين يأتون الحياة موتى، كل قصيدة يكتبونها تضيء في العتمة المؤبدة شمعة، وتضيف إلى قلوبهم نبضة خلاقة تصنع لهم الحياة التي يجبون
وكل موقفٍ يترفّعون به عن الهبوط العام، يجعلهم يشعرون أنهم يتنفسّون حقاً، وأنهم مستمرون روحاً عاليةً رغم الجسد الوضيع
كل صرخةٍ يطلقونها في مجتمعاتٍ يسودها السكوت والخرس العام، ترفع حجراً في عمارةِ الصحو رغم السبات الكثيف
الشعراء يموتون، لكن الشعر لايموت
يُدفنون كما الآخرين، لكنّ أكفَّهم ترتفع أشرعة وأطواق نجاة
تتحلل أجسادهم في التراب كما جميع المخلوقات، لكنها تندلع حقولا وفراديس وأشجاراً عالية تأوي إليها الأفئدة والعصافير
هم أنقياء هذه الأرض، فقراؤها، مكسوروها، قلما يكون لهم بيتٌ يمتلكونه، وهم شيدوا أبياتا بلا حصر، لكن على الورق وفي جغرافيا الأثير، كثيرون منهم يتوسلون الفرح للكل، ويتسولون رغيف العرفان والوفاء والخبز أيضا
قبل أيام أودعنا في التراب محمد علي شمس الدين، لكن سنديانة شعره لا تزال هنا وهناك وفي كل الأرض
وقبل أيام حملنا باسكال عساف إلى مثواه الأخير، لكنه لا يزال بيننا، يجمعنا، ويرصد في ملامحنا التوق إلى عناقه
ربما لم يخرج في وداع جثمانه كثيرون، ربما لم تسمع بموته الغالبية،ولا احتشد لوداعه هنا المتحدثون كما يحصل عادة مع المشاهير ..لكنه رغم رحيلة الحزين في منتهى السعادة، لأنه وأخيرا كتبَ نصه الأخير وإن مغمسّا بالوحدة والقهر
باسكال عساف الشاعر الشفافُ كقطرة عطر، الطيب البريء الخجول الانطوائي داخل ذاته، ربما لم أعرفه جيدا، كنت التقيه في أمسيات شهرياد ، يجلس هادئا، ولا أذكر مرة أنه قرأ شعره مع أنهم وانا طلبت إليه مرات كثيرة أن يفعل
قبل أقل من عام وقف باسكال على هذا المنبر شريكا للمتفردة لوركا سبيتي في أمسية كانت رائعة فعلا
وزّع على الحاضرين مجموعاته الشعرية، ورغيف محبته العارمة..وترك بعد مغادرته الكثير من الدفء والضوء
ثم سمعت بمرضه، عرفتُ أنه يعاني ، ومن الطبيعي أن يعاني الشعراء، وأن يتوجّعوا عنهم وعن الآخرين
ثم فجأةً جاءنا الخبر .. مات باسكال عساف، لم أصدم، لكنني شعرت بالحزن والقهر، قنديل آخر ينكسر، لكنه أبدا لن يقارب الانطفاء
الشعراء يموتون، أجسادهم أكفانهم منذ الولادة، لكن الشعر لا يموت
كل العزاء لعائلة باسكال ، لمحبيه، للشعراء في كل مكان
أعرف أنه لم يكون بيننا بعد اليوم، لكن وجودنا اليوم من اجله يقول العكس، بقاء كتبه وسيرته بيننا ، لخير دليل أنه سيبقى هنا
إذا مات الشاعر، لا تحزنوا، اقرأوه من جديد ، وسيعود
غرفة 19
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي