د. محمد عبد الرضا شياع
انشغل الفكر الإنساني طويلاً في موضوع الاغتراب، وقد تمثّل هذا الانشغال في الأطروحات الفلسفيّة والدّينيّة، وفي المذاهب والتّيّارات الأدبيّة.. فقد قال هيغل: إنّ الاغتراب متجلّ في صميم بنية الحياة الكلّيّة، وهو في نظر ماركس يتمثّل في حالات اغتراب الإنسان عن عمله وعن زملائه، بحيث لا يكون الإنسان ذاته، وإنّما هو مجرّد صفر على الشّمال في الوجود الجمعي… في حين يشكّل الموقف الدّيني عند فويرباخ نوعاً من اغتراب الإنسان عن ذاته، فما يظنّه الإنسان على أنّه آخر هو في الحقيقة وهم، فإذا ما أسقط صوره وأحلامه في شخص من وحي خياله، فإنّه سيكون مغترباً… وقد عالج ماركيوس في كتابه ( الإنسان ذو البعد الواحد ) الاغترابَ في المجتمعات الصّناعيّة، مثلما تناوله كولن ولسن في ( اللامنتمي ) عبر علاقة الإنسان بالوجود والمجتمع… أمّا الوجوديّون فقالوا: إنّ الاغتراب هو البعد عن الوجود العميق للإنسان… وتظلّ الرّمزيّة والدّادائيّة والسّرياليّة مذاهب أدبيّة نصتت إلى دواخل الإنسان وتشظّي ذاته تحت وطأة الآلة والحروب المجّانيّة… مطالبة الذّات الإنسانيّة بأن تعيش حالة قطيعة مع الواقع لتعانق ما وراءه
كما كان للفكر الإسلامي موقف من الاغتراب، تكفي الإشارة إليه بذكر الفيلسوف الأندلسي ابن باجه في شرحه لمعنى ( الغريب ) في كتابه ( تدبير المتوحّد )، بالإضافة إلى كتابات أبي حيان التّوحيدي في ( الغربة والاغترا)، والتي تشكّل علامة فارقة في هذا الاتّجاه… ناهيك عن الوضع المتفرّد للخطاب الصّوفي الذي خبر حالة الاغتراب ذاتها
بيد أنّ مَنْ يعاين الموضوع عبر الأسس اللغويّة والاصطلاحيّة، فإنّه سيجد المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي واحداً، وأنّ الغربة والاغتراب كليهما في اللغة بمعنى واحد: وهو الذّهاب والتّنحّي عن النّاس
من هنا فإنّني أنظر إلى الاغتراب من خلال الذّات الإنسانية التي جعلتها صدمات الوجود منكفئة على نفسها؛ تجترّ رغباتها وتطلّعاتها، ترتكن إلى آلامها حين تجد النّوافذ المشرعة مغلقة أمامها، لأنّها تعيش تحت سلطة الوهم.. ولعلّ هذا الأمر قد تحقّق عبر صدمات ثلاث تعرّض لها الإنسان فجعلته يحدّق في مرآة ذاته، مطيلاً الفكر والتّفكّر حتّى تجلّت في هيئته صورة الاغتراب؛ والصّدمات الثّلاثة هي: الأولى: كوسمولوجيّة، والثّانية: بايولوجيّة، والثّالثة: سايكولوجيّة
وقعت الأولى عندما اكتشف كوبرنيك أنّ الأرض ليست هي مركز الكون، بل الشّمس، أي أنّ الإنسان لا يعيش في المركز كما كان يعتقد، وتعزّزت الصّدمة حينما حقّق غاليليو صحّة نظريّة كوبرنيك
أما الصّدمة البايولوجيّة فتمثّلت في آراء دارون الذي قال: إنّ الإنسان منحدر من سلالة حيوانيّة وليس مخلوقاً على صورة الخالق كما كان يتوهّم، على الرّغم من المؤاخذات التي سُجّلت ضدّ هذه الآراء، ومن ثمّ تفنيدها
في حين تجلّت الصّدمة السّايكولوجيّة في اكتشاف فرويد الذي قال: إنّ الذي يتحكّم بسلوك الإنسان هو لاوعيُهُ، فهو محكوم بالغرائز إذن
لقد حقّقت هذه الصّدمات الثّلاثة قطيعة للإنسان مع واقعه، وإذا لم تكن قطيعة فهي زحزحة ابستمولوجيّة قامت ضدّ الثّوابت التي كان يرى فيها الإنسان شيئاً من نرجسيّته كإنسان
وأودّ هنا أن أضيف صدمة رابعة تعرّض لها إنسان العالم الثّالث وأعني صدمة الحداثة التي قامت في الغرب فأوجدت خلخلة في النّظرة إلى كثير من القيم الموروثة، والتي تركت أثراً واضحاً على جسد وروح المبدع المعاصر… وسأقدّم في هذا المقام بعض النّماذج الشّعريّة والسّرديّة التي وسمتها الحداثة بميسمها، فجعلت الذّات المبدعة تصطدم بالواقع المعيش… فيكتب الشّاعر محمّد الدّمرداش قائلاً في ” حلم كلّ ليلة “
في كلّ ليلةٍ
يَشدّني حُلْم جريح
من عالمي القبيح
ومن عواء الرّيح
***
ألمُّ أعماقي من الضّوضاء
ألمُّ أجزائي الممزّقة
من الرّصيف والشّوارع
وما تبقّى من دماء
ألمّها… أريحها تحت الغطاء
وأُسلم الجراحَ والأوجاع
لمبضعِ المساء
لكي يخيطَها… يرشّها دواء
***
وفي الصّباح
توقظني الجراحُ ساخرةً
وترفعُ الغطاء
وأن حُلْمَ كلِّ ليلةٍ
أمنيةٌ بلهاء
في هذا الموقف نوع من المواجهة بين الذّات والوجود، ويبدو أنّ نتائج هاته المواجهة تنعكس على نفس الشّاعر فتسبّب لها شروخاً يُصبح حلمُ الشّفاءِ منها أمنيةً بلهاء
ثمّ نقرأ للشّاعر فراس سليمان اغتراباً إبداعيّاً يتقاطع مع الموروث الشّعري، وذلك في قصيدته ” صباح صغير “
أنا أحبّكِ بهذهِ الغرابةِ التي لا تُفهَمُ
أنْ أمسحَ الغبارَ عن أحجارِكِ الكريمةِ
أنْ أَحْرِسَ مواعيدَكِ وأوهامَكِ
ككلبٍ عجوز
أنْ أُعمّرَ لأبهة جسدكِ حيطاناً من ماءٍ وقصائد
أنْ أرتجفَ من شدّةِ ما أخافُ عليكِ
أنْ ألهثَ من شدّةِ ما أسمعكِ
أنْ أُخَبِّئَ ياسمينَكِ في ذاكرةٍ مجعّدة
وأنسى كلَّ ما عداه
أنْ أقعي كوهمٍ مجروح
تحتَ نافذتكِ الزّرقاء
منتظراً أنْ يَسقطَ عليَّ صباحٌ صغير
أنْ أَرْقُبَ عجلةَ الحبّ
وهي تدورُ باتّجاهين
أنْ أمتثلَ لكِ برهافةٍ كما لم أفعلْ أبداً
وأتركَ روحي تذوبُ على مهلٍ
فوقَ بنطالِكِ
أن أكتشفَ أنّ جسديَ النّحيل
يرنُّ في حضوركِ مثلَ جرسِ العيد
أن أُحبّكِ بهذه الغرابةِ التي لا تفهمُ
يعني أن أتفتّتَ خوفاً
كما لن تفهمي أبداً
إنّه يحرسُ مواعيدَ حبيبته وأوهامها ككلبٍ عجوز، وهو – بطبيعة الحال – لا يمتّ بصلة إلى كلبِ علي بن الجهم الذي شبّه المتوكّل العبّاسي به، عندما قالَ له مادحاً
أنتَ كالكلبِ في حفاظك للعَهْد … وكالتّيس في قِراعِ الخطوبِ
وفي قوله: ” أنْ أقعي كوهمٍ مجروح / تحتَ نافذتكِ الزّرقاء ” لا يُشبه قول البحتري في قصيدتهِ التي يذكر فيها قتله للذّئب
عَوى ثُمَّ أَقعى وَارتَجَزتُ فَهِجتُهُ … فَأَقبَلَ مِثلَ البَرقِ يَتبَعُهُ الرَّعدُ
لقد حقّقَ الشّاعر هنا اغتراباً لافتاً على مستوى الكتابة الإبداعيّة
كما نعثرُ على هذا الاغتراب في الكتابات السّرديّة، فنأخذ أنموذجاً القاصّ محمود تراوري الذي يقول في مجموعته ” ضجر الصّباحات “: (( وغريب أنا حتّى العثور على وجوه أحبّها… ما مللت التّرحال. وهذا الصّباح للنّاس. والحزن لي. من يقاسمني الغربة؟ ))
إنّ قراءة المجموعة توحي للمتلقّي بأنّ إحساس الكاتب بالغربة يتجاوز القراءة التّقليديّة التي اعتدنا قراءتها في الكتابات التّراثيّة المهتمّة بموضوع الغربة والاغتراب، إذ يركّز القاصّ على هاجس اللون، فيقول على لسان بطل ” الصّباحات المضجرة “:(( ميادين شبه نائمة، وبرد مؤدّب، وأنا وغرابيب سود )) ويقول أيضاً: (( ما صادفت مساحة بيضاء إلاّ هجست بتلوينها بخطاكِ القلقةِ )) ويقول: (( تحوّلت الرّؤوس أمامي إلى غلالة من الضّباب الأسود، تجمّعت كلّها في شاحنة كبيرة، سأقتحم السّواد، قد أتبخّرُ إن لم أُقْحِمْ جسمي معهم ))
إنّه يضاهي أولئك الكتّاب الذين صار اللون الأسود هاجساً لديهم. ويحضر هنا بإلحاح الشّاعر الأفريقي محمّد الفيتوري الذي كان عنده هذا اللونُ هاجساً شعريّاً، يجعله يعيش حالة الاغتراب هاته، فإذا كان غيرهُ يفرُّ من جوعهِ، فهو يفرّ من هذا اللون ليعودَ إليه، مغترفاً من صفائه مادّة شعره، لتكون كلماته خيوطَ الشّمس البلّوريّة، وقطرات النّدى على شرفات الصّباح ليخلّصها من الضّجر الذي ألمَّ بالقاصّ محمود تراوري الذي باتَ يكتب سيرة الاغتراب بلون داكن ترسمه تضاريس الحياة
أخيراً أقول هل هذا هو الواقع حقّاً، أم أنّ الإنسان خنقته التّفاصيل، فدار ظهرَهُ إليها، حتّى غابت لغةُ المجازِ ولغةُ الأسطورة لتحلَّ محلّها تقوّلات تجسّد واقعاً داخليّاً منه يتكوّن عالم المبدع الغريب، فيكون الاغتراب صوتاً يرنّ صداه في أعماق الأديب المتشظّي بين ما يقول وما يجب أن ينقال، وكأنّه كائن ينزلق على أرصفة الأمكنة الهشّة كأوصاله المبعثرة في فضاء الكتابة، والذي أقلّ ما يوصف بأنّه فضاء منفتح على مشارف التّيه، تغرق في صحرائه كلمات المبدعين الرّاحلين في ليل اغترابهم الطّويل…؟
* كاتب وأستاذ جامعي عراقي