ماري القصّيفي
كم جميل أن أكتب بمزاجي النسائيّ، وكم جميل أن تكون نصوصي ديوان شعري وألبوم صوري ودفتر مذكّراتي وصحيفتي اليوميّة وتاريخي العابق بشذا البخور ومستقبلي العالق على معبر الحاضر
أكتب هذا الكلام عن الكتابة وفي بالي كلام قرأته عن الشاعر خليل حاوي الذي أجبرته ظروف الحياة على العمل في البناء قبل أن تتاح له الفرصة للالتحاق بالمدرسة، وخلاصة الكلام أنّ الشاعر كان يبني قصائده بحرفة البنّاء وموهبة الشاعر. ولم يعترض أحد على هذا الوصف، ولم يعتبر خليل حاوي أنّ في الأمر إساءة إليه
وبناء عليه، وبعيدًا عن الكتب والندوات الشعريّة والتعليم والتربية وحركات “تحوير” المرأة، أريد أن اعترف بما يلي
كتبت نصوصًا بحرفة الحائكة: فأنا أهوى الأشغال اليدويّة وأعتبرها فرصة ممتعة للتفكير والتمويه والإبداع في الوقت نفسه، ولذلك جاءت بعض النصوص تشبه ما حِكته لبنات أختي: ملوّنة كقبّعة حكتها لـ”رنا” (رنا: العيون السود، رنا الضحكة السعيدة اللي ما إلها حدود، بحسب أغنية للفنّان خالد الهبر) أو غريبة ككنزة صوفيّة اخترعت موديلها لـ”يارا” (يللي جدايلها شقر فعلاً، بحسب قصيدة سعيد عقل التي تغنّيها فيروز)، أو جريئة كتلك القميص الصيفيّة التي تغاوت بها “ميرا” الأميرة في سهرات الصيف
وكتبت نصوصًا بحرفة الخيّاطة: فأنا “صادرت” من خزانة والدتي ماكنة الخياطة ماركة “سنجر” (اشترتها أمّي لتخيط عليها ملابسي أنا، طفلتها الأولى)، وخطت عليها ستائر وأغطية وبُسُطًا جمعت أقمشتها من ملابس قديمة لا نريد التخلّي عنها لما تحمله من ذكريات، أو من مناديل أمّي القديمة أو من أغطية الرأس التي كانت لجدّتي، أو من ملابسنا وحرامتنا الصوفيّة التي تعود إلى زمن الطفولة
وكتبت نصوصًا بحرفّة الدهّانة أو “الطرّاشة” التي تهوى طرش الحيطان وتغيير ألوانها ودهان الأبواب والنوافذ لأنّني ضجرت من الحيطان والأبواب والنوافذ كما كانت. وغالبًا ما أضجر
وكتبت نصوصًا لها عبق البقدونس البلديّ الطازج في صحن التبّولة، ونصوصًا لها نكهة القهوة، ونصوصًا لها لون النبيذ
وكتبت نصوصًا فيها توهّج الشمس، وأخرى فيها صوت المطر، وغيرها فيه حساسيّة الربيع، وأجملها ما فيه ألوان الخريف الذي أعشقه
وكتبت نصوصًا تحت تأثير التوتّر والمزاجيّة اللذين يسبقان العادة الشهريّة، وأخرى كانت نتيجة ثورة الهرمونات مع اقتراب سنّ البأس (بحرف الباء لا بحرف الياء) ففي هذه المرحلة “لا بأس” أبدًا من الانتقال إلى مرحلة جديدة مختلفة وجميلة وغنيّة وربّما أكثر حريّة
سأكون أكبر كاذبة عرفها التاريخ إن ادّعيت أنّ القضايا الكبيرة فقط هي التي تحرّك قلمي أو أصابعي فوق لوحة الأحرف، وسأكون خبيثة إن قلت أنّني أرفض تصنيف كتابتي على أنّها أنثويّة (مع أنّني أشعر أحيانًا أنّني الرجل الوحيد على الأرض)
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تبكي عندما تبلغ النشوة، وتبكي عندما تكتشف أنّ والديها صارا ولديها، وتبكي عندما تشاهد فيلمًا عاطفيًّا، وتبكي عندما تغضب ممّا يهين كرامة الإنسان، وتبكي عندما تكتشف كم هي عاجزة عن إصلاح الأمور، وتبكي عند خيبة الأمل من صديق
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تضحك في السينما كمن لم يضحك منذ أعوام ما يحرج أصدقاءها، وتحادث الندل في المقاهي والمطاعم كأنّها تعرفهم منذ زمن، وتجد ما تتناقش به مع المتسوّل على الطريق، وتقود السيّارة في جنون على طرقات الليل الخالية
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تهوى تنسيق الملابس وجمع الحلي العتيقة الجميلة، والأوشحة والمعاطف من مختلف الألوان، وحقائب اليد الثمينة والأحذية الأنيقة المريحة، ووضع الكحل العربيّ، وتغيير تسريحة الشعر
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تشاهد أنواعًا قد تبدو متناقضة من البرامج التلفزيونيّة والأفلام، وتستمع إلى أنواع قد تبدو متنافرة من الموسيقى والأغنيات، وتعشق الطبيعة بالمقدار نفسه الذي تشمئزّ فيه من كلّ ما له علاقة بنظافة الإنسان
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة قد تثرثر بلا توقّف ثمّ تغرق في الصمت الحبيب وتمتنع فجأة عن الكلام كأنّها تعبت من تغيير ما لا يمكن تغييره. كما حصل الآن