د. حسن مدن من كتاب: يوميّات التلصص
في فناء الفندق، في ذلك المساء المضيء، كانت العازفتان اللتان بدتا كما لو كانتا خارجتين للتو من إحدى قصائد بوشكين البيضاء، تعزفان، في ثنائية جميلة، على الكمنجات. لا يبارح الذاكرة ذلك الحنان الذي كان يتدفق من أوتار الكمنجات، فيوشك أن يكون بكاء أو أنيناً. كانت الإضاءة خافتة في المقهى، وحول الطاولات الصغيرة المحاذية لأرائك واسعة جلس الشاعرون بخدر لذيذ يتبادلون الأحاديث وإلى أسماعهم يصل بوح الكمنجات صادراً عن الأوتار الظمأى المرتعشة، الباكية والضاحكة، وهي تتعانق مع العصا السحرية تحركها أنامل العازفتين ذهاباً وإياباً، صعوداً وهبوطاً
أي أسى تختزنه أوتار الكمنجات، أي شجن ذاك الذي أثار في نفسي شغفاً بالتعرف إلى مبعث سحر هذه الآلة الموسيقية المدهشة. في إحدى الموسوعات الإلكترونية الشهيرة قرأت وصفاً رائعاً لها يقول إنها أرقى وأنبل الآلات الموسيقية، أما صوتها فيوصف بأنه أحن أصوات هذه الآلات
بوسعك الشعور بعمق كل كلمة من هذا الوصف وأنت ترهف السمع للكمنجات التي تقول الموسوعة إياها إنها تعبر عن أرق المشاعر والأحاسيس حتى أقوى الانفعالات كالغضب واليأس، وذلك بسبب تعدد تقنيات العزف عليها، ما يعطيها قوة تعبير خارقة. ويقول الدارسون في تاريخ الموسيقا إن الكمان هو تطوير للربابة العربية التي وصلت إلى أوروبا عن طريق القسطنطينية باتجاه الأندلس وصقلية، قبل أن تبلغ ما هي عليه الآن في القرن السادس عشر. لا نعلم، الآن، كم طول الطريق الذي قطعته الربابة العربية لتتحول إلى كمنجة، ولكن الكمنجة حملت تلك الشحنة العاطفية التي أعطاها عازف الربابة العربي لآلته، في ليالٍ برية يضيئها قمر ونجوم، وتدفئها نار موقدة حواليه، وهو يسامر ذاك الليل الساحر
يليق بالإفصاح عن بوح الكمنجات شاعر مثل محمود درويش وبوزنه، هو الذي بلغ في قصيدته “الكمنجات”، ضمن ديوان: “أحد عشر كوكباً في وداع المشهد الأندلسي”، واحدةً من ذراه الرائعة، في الإمساك المرهف بالحنين لا إلى فردوس فقدناه، وإنما إلى أزمنة ومطارح كثيرة تسربت من أصابع اليدين
كان مبرراً أن تقترن الكمنجات بذاكرة الأندلس، فما من ذاكرة مثلها مثقلة بالأسى والحنين والشجن: “الكَمَنجاتُ تَبْكي مَعَ الْغَجَر الذَّاهبينَ إلى الأنْدَلُسْ/ الكَمَنجاتُ تَبْكي على الْعَرب الْخارجين منَ الأنْدلُسْ/ الكَمَنجاتُ تَبْكي على زَمَنٍ ضائعٍ لا يَعودْ/ الكَمَنجاتُ تَبْكي على وَطَنٍ ضائعٍ قَدْ يَعود”
حين قرأ محمود هذا المطلع من قصيدته في حيفا التي زارها قبل رحيله بفترة ليست طويلة، ضجت القاعة بالتصفيق، فلأي كمنجات كانت الأكف تصفق؟ أي حنين تفجر في أفئدة الحاضرين، الأندلس نأت بها عنا القرون، أم لأندلس حاضرة؟
أكان فلسطينيو حيفا الباقون ينظرون إلى صورتهم ويسمعون صوتهم؟ أكانوا يبصرون في الأندلس بقايا فلسطينهم؟ هل عزَّ عليهم البكاء فأسلموا لكمنجات محمود درويش كي تفصح عن: “فَوْضى قُلوب تُجنِّنُها الرِّيحُ في قَدَم الرَّاقصَةْ”، ولتعدو “أسْرابُ طيْرٍ تفرُّ منَ الرَّايَة النَّاقصَة”