الروائي الأردني جلال برجس
عزيزتي الكاتبة الشابة، عزيزي الكاتب الشاب، أنا مثلكما ما زلت أعيش قلقي، وحيرتي، وشكوكي حيال جوانب كثيرة في هذه الحياة، وحيال الكتابة -سبيلنا إلى فهم ما هو غامض-لكنني عبر تلك السنوات القليلة من عمري الأدبي -والتي مر بعضها كما يمر سكين مهترئ بجسد فتي- أعتقد أنني وجدتُ ما يمكن قوله لكما. وربما أكون على نحو ما من الصواب في هذا الجانب، ومن المحتمل أيضًا أن أكون خاطئًا. لكنني تعلمت أن الأخطاء هي الدليل الأكثر وفاء في هذه المسألة؛ إصبع يشير بأمانة إلى الصواب، حالة غير مطلقة بالطبع في مجمل أركان حياتنا، وليست فقط فيما يتعلق بالأدب
من هنا أقول عليك أن تعرف أنك ما أتيت إلى الكتابة، هذه المنطقة -التي ينبت فيها الشوك- بمحض إرادتك؛ ثمة يد خفية دفعتك إليها لتنجو من أمر أنت تعرفه، من دون أن تدري أنك تخطو نحو قطار سيأخذك إلى منطقتك لتجثو على ركبتيك، وتبدأ بتنظيفها مما فيها من أشواك، لتزرع وردتك، ثم تستلقي على ظهرك وتحدق بالسماء مرتاح البال. هذه هي الكتابة، قرار حياتي سترافق نتائجُه تفاصيل أيامك التي ستعيشها، مصابًا بالقلق، والبهجة، والرعونة، والحماسة، والغرور، وإحساسك بأنك ستزيل الغبار عن وجه الحياة، ليبدو على حقيقته الجميلة. لابد أنك قرأت كثيرًا، وجلست في الصفوف الخلفية في المنتديات تنصت بشغف لما يقال. لابد أنك تأملت كثيرًا، ووقفت أمام المرآة تنظر بوجهك، ثم أغمضت عينيك لتنصت إلى صوتك الداخلي
إن قمت بذلك، فأنت حقًا تمضي نحو منطقتك الخاصة. ستكتب وأنت مصاب بالشك مما يؤدي إليه قلمك، ستمزق صفحات، وتستقر على بعضها. ستنظر إلى ما كتبه من راقتك كلماتهم، ستحدق بها مليًّا، وتفكر كيف أتت على هذه الشاكلة. ستكتب، وستسعى إلى من ينظر إلى ما فعلت، لتتأكد مما أنت مقدم عليه. ربما تجد من هو على تصالح مع نفسه أمام الكتابة وجدواها؛ فيشير إلى طرق عليك أن تسلكها، وإلى خطواتك القوية، حينها ستشعر أن الأمر جادًا أكثر من ذي قبل، وأن جزء من العتمة التي تتراكم أمام خطوتك قد تلاشى. ستكرر فعلتك هذه، وتغرق بالكتابة أكثر من ذي قبل. لكنك من الجانب الآخر ستجد من يضع العصي في دولابك، ليس لشيء سوى أنك، قلت كلمة روحها مشتقة من الشمس، وجذورها تضرب بقوة في قلبك، وقامتها من لحم أمنياتك الكثيرة. ولأنك كتبت بمستوى يدل على قوة ما أنت بصدد الاشتغال عليه مستقبلًا؛ مستوى يحلم به الكثير
وحين تنجح، حين يصير لك قراء، ومعجبون، ويصبح صوتك مسموعًا سترى العصي تتكاثر بشراهة غريبة. وإن علا صوتك أكثر، ستجد من يحاولون القفز إلى مؤخرة القطار الذي يمضي بك سريعًا إلى الأمام، إنها محاولة غير صامتة، محاولة فيها الكثير من السباب، والشتائم، والتصيّد، وتجربة النيل منك. لكن تنبّه إلى ما سوف تفكر به. إن أوقفت قطارك؛ سيصعد الكثير إليه، سيزداد الصراخ، والضجيج، وتكثر الأشياء التي ستتعثر بها. حينها لن تصبح قادرًا على أن تستقر في قمرة القيادة، وإن جلست في موقعك رغم كل ما يحدث، لن تنال ذلك التركيز الذي يفترض أن يجعلك ترى الطريق جيدًا، وتمضي فيها كما تريد. كل ما سيحدث لك متوقع، لقد حدث سابقًا لكثير من الكتّاب الذين لم تقوَ بعض الأصابع على محو أسمائهم من جدارية الأدب. نعم كل ذلك يحدث، لكن عليك ألا تدوس الكوابح لتمنح من يلحقون بقطارك -أصحاب الخطوات البطيئة- فرصة الصعود إلى قمرتك. حافظ على مسارك، ومن تسعفه قدماه باللحاق بك، لن يقبل إلا بقطار يخصه هو نفسه، ونادرًا يا عزيزي ما تتصادم القطارات السريعة
عليك أن تعرف أيضًا أن جلوسك في قمرة القيادة، والانطلاق في طريقك التي ستتوقف عبرها عند محطات ستجد فيها من يصفقون لك هو ليس نهاية الطريق إلى منطقتك المنشودة. وإن راقك التصفيق، وأخذت تسرع نحو المحطات التي ستجد فيها الكثير منه؛ فهذه دلالة على أنك فقدت بوصلتك، وأن قطارك ربما يخرج عن سكته وينقلب بك. كل ما عليك فعله عند هذه الحالة القاتلة هو العودة بذاكرتك إلى اللحظة التي سبقت صعودك القطار. تأملها جيدًا، وتأمل الورقة التي كانت بيدك، وهي تحمل عنوان منطقتك. حينها واصل طريقك، وحافظ على عدم نسيان أنك ذاهب لتحصد الشوك، ثم تزرع وردتك. هنا يمكنني أن أتساءل معك: هل هناك من وصل منطقته، وحصد الشوك، وزرع وردته؟ أم أن الطريق إلى الفردوس هي الفردوس بحد ذاتها؟
غرفة 19
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم