زينب علي البحراني
فجأة انفجرت ماسورة أخبار “الغباء الاصطناعي” مُتسببة بفيضانٍ من الأحاديث عن تفشِّي هذا الوباء المُهدد للإبداع البشري على وجه الأرض، والواعِد بمُستقبلٍ تحتله الروبوتات مُفترسةً فُرص العمل، وفُرص البزوغ والتميُّز والتألُّق للإنسان، ومؤذنةً بمستقبلٍ مُريبٍ يفتح أبوابه لارتكاب الجرائم عن طريق كائنات لا تخشى العواقب أو العقاب لأنها دون روح أو مشاعر أو وازع أخلاقي
من المُثير للاستغراب أن مُعظم المِهن التي يبدا ضربها في مقتل مع كل قفزة من قفزات التكنولوجيا المُتاحة للجميع هي المِهن الإبداعيَّة، بدأ الأمر قبل سنوات مع الكتابة وفن التعبير، والصميم، والتصوير الضوئي، وبعد أن كانت تلك المواهب توفر أجورًا مُجزية لمن أنعم الله عليهم بها سَقط سوقها لأنها صارت بين يدي من هب ودب من غير الموهوبين، والخدمة الإبداعية التي كان أجرها مائة دولار صار أجرها خمسة دولارات مع مُنافسة شرِسة طاحنة تجعل كل موهوبٍ يحترم نفسه ومهاراته يخرج بكرامته من هذا السوق الرخيص الذي لم يعُد يُطمعه خبزًا فضلاً عن الوعي بموهبته وتقديرها، لكن الأمر تجاوز خطوطه الحمراء من الاكتفاء بسحب البساط من تحت أقدام ذوي المواهب المتميزة إلى ذوي المهارات الناتجة عن تعليم أو خِبرة، ما يُهدد ملايين خريجي المعاهد والجامعات بالبطالة، والنبذ، والإقصاء، والغرق في مشاعر الإحباط وانعدام الجدوى
“الغباء الاصطناعي” الذي بدأت قنوات فضائية تتباهى باستخدامها مُقدمات برامج آليَّات يعملن وفق تقنياته بدلاً عن المُذيعات ومُقدمات البرامج البشريات يزحف زحفًا سريعًا على المِهن الأخرى، قريبًا سينتهي دور سائق سيارة الأجرة مع السيارة التي تقود نفسها كُليًا بالغباء الاصطناعي، وينتهي دور موظفي الاستقبال مادامت دُمية شبيهة بالإنسان تمامًا يديرها الغباء الاصطناعي قادرة على مواجهة البشر الداخلين والخارجين من أي مؤسسة والرد على اسئلتهم وتلبية طلباتهم بالغباء الاصطناعي، وداعًا لمُقدمي الطلبات في الطاعم، وموظفي البنوك، ومُحاسبي المعارض التجارية، وعُمال النظافة، والطباخين، ونصف المُعلمين والمُحامين والمُهندسين والأطبَّاء الذين من السهل على الغباء الاصطناعي اختزان مناهج سنوات دراستهم الجامعية ثم تقديم الخدمات للمؤسسات التي لن تحتاج لتوظيفهم وستوفر أجورهم المرتفعة. الرأسمالية تنتصر وتُسجل أعظم انتصاراتها، “الغباء الاصطناعي” يؤدي عمل مائة موظف كانت المؤسسة مضطرة لدفع أجورهم الشهرية، وعلاواتهم السنوية، وتأمينهم الصحي، وتحمُّل إجازاتهم السنوية وإجازاتهم المرضية وعطلاتهم الأسبوعية، وربما “تكبر رؤوسهم” ويُطالبون بزيادات في الأجور أو بيئات عملٍ أكثر “انسانية” على حد تعبيرهم، أو يتهورون ويتسببون بإضرابات ومُظاهرات وغيرها من السلوكيات التي يصعب “السيطرة عليها” أو “التحكم بها”.. كل الاجتماعات والندوات والحوارات والمباحثات والاحتجاجات التي تُطالب اليوم بإيجاد “حلول للبطالة” تبدو دُعابة طريفة اليوم أمام الرؤى المستقبلية التي تعتبر كل أولئك المطالبين بالتوظيف “كائنات فائضة عن الحاجة” لأي مؤسسة سيحتلها “الغباء الاصطناعي
هذه الأزمة لم تبدأ منذ الآن؛ بل منذ سنوات عندما تم الإفراط في إتاحة فُرص كانت لا تتاح إلا لذوي الذكاء المُتميز والعقول النادرة والمواهب الفريدة من نوعها لتُصبح بين أيدي ذوي الذكاء المتوسط والأقل من المتوسط بقليل، لقد وُهب الأكثرية ما يجب أن يكون حقًا لأقليَّة فصار العالم مليئًا بالبشر المُتشابهين المُبرمجين عقليًا، وصولاً إلى نقطة سهولة استبدال أولئك المتشابهين بالروبوتات، فكلاهما يحفظ الكلام ويُنفذ الأوامر ولا يُقدم جديدًا، وهو ما يُبشر بمُستقبلٍ تتضاعف فيه الاضطرابات النفسية وحالات الانتحار
هل سيموت الإبداع تمامًا وينقرض؟ يصعُب ذلك مادام هناك بشرٌ يخلقهم الإله بإبداعه العظيم ويمتازون بأرواح قادرة على التقاط مشاعر لا يلتقطها عامَّة الناس، لكن أولئك المُبدعون النادرون ستغدو حياتهم أكثر صعوبة، لأن وعيهم بخطر “الغباء الاصطناعي” أعلى من وعي غيرهم
غرفة 19
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم