فاتن محمد علي
من أهم الأفلام وHروعها التى كلما شاهدتَه لا تمل منه..فيلم يحتمل العديد من القراءات. شاهدتُه للمرة الثانية بعد مشاهدته فى حينه
فيلم Parasite ( طفيلى )
صرخة وناقوس خطر يحذر من الانفجار الوشيك
حاز الفيلم الكورى Parasite تأليف بونج جون هو ،و جين وون ما وإخراج بونج جون هو ، على عدد من الجوائز اهمها السعفة الذهبية فى مهرجان كان 2019 ، واوسكار افضل فيلم اجنبى 2020
*يتناول الفيلم الصراع الطبقي ، والظلم الاجتماعي الواقع على الطبقة الفقيرة من خلال
اسرتين الاولى اسرة كيم التى تعيش حالة من الفقر الناتج عن البطالة ، و تتكون من الاب الذي خسر عمله ، وابن وابنة لم يكملا تعليمهما ، نتيجة فقدان الاب لمصدر رزقه ، والام التى نعرف من سياق الاحداث انها كانت بطلة رياضية ، والاسرة الثانية اسرة بارك التى تعيش فى رفاهية وثراء فاحش، وتتماثل فى العدد مع اسرة كيم ، والصدفة تجعل الاسرة الاولى تعمل لدى الثانية ، ومن خلال الكثير من المفارقات فى اسلوب حياة كل اسرة ، تتجلى الفوارق الطبقية فى اوج صورها ، فحين تعيش اسرة كيم فى قبو تحت الارض (Bad room) فى حى فقير اقرب للعشوائيات ، مع الزواحف والحشرات ، به نافذة وحيدة فى مستوى الشارع ، ويطل عليهم العابرون من اعلى ، و يبول امامهم سَكْيّر ،..بينما تعيش اسرة بارك فى قصر منيف يحوطه حديقة كبيرة و اشجار وازهار ، ومتعدد الطوابق ومتعدد الحجرات
صرخة وناقوس خطر يحذر من الانفجار الوشيك
بقلم فاتن محمد علي
عنوان الفيلم يعنى طفيلى ، ربما للإشارة الى اسرة كيم ، وكما هو متعارف عليه ؛ فإن الطفيليات نوعان ، نوع نافع تحتاج إليه الطبيعة ، نوع ينشأ فى وسط فاسد لا يجد ما يتغذى عليه ضار، فيعيش على عائل أخر ويتغذى من خلاله ، وهذا ما شرحه المخرج (بونج جون هو) بشكل درامي بسيط، وقدرة على خلق بصمة إخراجية خاصة كاشفا المعنى الحرفي لطفيلي من خلال أول مشهد من الفيلم بسرقة اﻷسرة لشبكة الأنترنت، واستيائهم من تغيير جارتهم فى الطابق الاعلى لكلمة السر الخاصة بال (Wi -Fi)، وخاصة أن الإنترنت وسيلة تواصلهم الوحيدة مع العالم الخارجي ، وحتى طريقة تسلقهم للعمل لدى اسرة بارك كان على أجساد أناس من نفس طبقتهم ، بالحيل والخديعة ، وهنا يشير السيناريست الى ان الصراع لا يشمل الطبقتين فحسب ، ولكن هناك ايضا صراع مواز داخل نفس الطبقة الفقيرة ، والذى يبدأ بالاستيلاء على العمل ، ويصل الى الاقتتال والقتل فى النهاية ..لم تقتل الطبقة ذاتها وحسب ، بل تقتل أيضا الطبقة الغنية يأسا وانتقاما ، ونرى هذا فى النهاية المأساوية للفيلم ، فيسيل دم الفقراء ويختلط بدماء الأغنياء .. لينبه ويلفت الى خطر العنصرية والظلم،وافتقاد العدالة جراء الفوارق الطبقية التى تفرزها الرأسمالية المتوحشة
الفيلم لم يتناول الصراع الطبقى فقط ، بل قدم لنا سمات كل طبقة ، فبينما طبقة كيم سوقية وانتهازية ولديهم ذكاء فى نسج الحيل الشيطانية من أجل التسلق ، والوصول لأهدافهم تحقيقا لمصالحهم ؛ ربما نتيجة ما تعانيه من ظلم اجتماعى وعوز ، ومناخ ملوث ، نجد ان اسرة بارك مهذبة مرفهة ، وساذجة ، وتافهة على نحو ما ؛ لتتباهى مثلا زوجة بارك بأنها اشترت زيا ورماها للهنود الحمر من امريكا ، وتقيم حفلا لطفلها اسمته حفل التعافي من الصدمة ، هذا الحفل الذى ينقلب الى مسرح للقتل ، ولكل اسرة/طبقة رأيها في الأخرى ، ويشمئز بارك وأسرته من رائحة اسرة/طبقة كيم ، ويتحدث بارك عن هذه الرائحة التى تؤرقه فى السيارة والمنبعثة من كيم/ السائق ، ونجد فى مشهد اخر الزوجة تتقزز من هذه الرائحة وتفتح نافذة السيارة، ويكتشف طفلهم ان رائحة مدبرة المنزل/زوجة كيم، ومدرسته/ ابنة كيم ، هى نفس الرائحة ، ويقترح ابن كيم ان يغسلوا ملابس كل منهم بنوع مختلف من الصابون ، ولكن الابنة تلخص لنا الموقف وتُعزى الرائحة للقبو وليس لنوع الصابون الرخيص ، فى اشارة الى الفقر
وترى زوجة كيم فى ألثراء الذى تعيشه اسرة بارك انه يمنح الجمال واللطف وتعبر عن هذا بقولها ( المال كالمكواة يفرد الجلد )
قدم بونج ، وجين سيناريو محكما وحوارا سلسا ولغة جيدة ، فلم يقعا فى فخ التنميط او الكلشيهية فى معالجة الصراع ، بل ضٓمّنا إشارات ذكية توضح هذا التفاوت والهوة السحيقة بين الطبقتين ، وليس هذا وحسب بل أظهرا الطبقة الغنية لا تشعر بالطبقة الدنيا المطحونة ، وذلك لإدانة الاختلال الاجتماعي داخل مجتمع كوريا
الجنوبية , وكذا فى كل مكان به هذا الظلم الاجتماعي ؛ الى درجة ان طبقة الأثرياء لا ترى الفقراء ولا تشعر بها فنجد مشهدا دالا حين يختبئ ابن كيم فى حجرة ابنة بارك ، لا يراه احد ، فقط الكلب الذي يلتفت إليه ، وفى سياق آخر نجد ان زوج مديرة المنزل القديمة يعيش في قبو اسرة بارك لمدة اربع سنوات هربا من السجن المهدد به نتيجة تراكم الديون وفشل تجارته، فلا يشعر به احد ، والمرة الوحيدة التي يراه فيها طفل بارك يخاله شبحا ، فى اشارة الى ان الاغنياء يرون الفقراء اشباحا
*المكان هنا في الفيلم ليس مجرد إطار أو خلفية للأحداث، بل يشارك في صنع الدراما وخلق معنى الفيلم. تدور أغلب أحداث الفيلم في قبو العائلة الفقيرة ومسكن العائلة الثرية.. نجد التصوير بلقطات ضيقة ( Zoom in) فى منزل كيم فنرى اللقطة بها كل العائلة وكأنهم محاصرون في قبوهم ، وجاءت زاوية التصوير فى اول مشهد مستقيمة وتم تثبيتها 22 ثانية تقريبا ليوحى بثبات مستوى الاسرة ، ومن اللقطات المدهشة والموحية مشهد إلتقاط الاخوين لشبكة الإنترنت، بجوار المرحاض ، فكان الموقع يحتويهما دون تغيير لزاوية التصوير ، وفى نفس الوقت نجد اللقطات واسعة(Zoom out)فى قصر بارك فيظهرون اصغر فى الفراغ بين الأثاث الفاخر والمساحات الكبيرة
ومن المشاهد المبهرة هطول المطر وما نتج عنه من كارثة لأسرة كيم وغرق قبوهم وجيرانهم بمياه المجارى التى اختلطت بمياه المطر ، وعلى النقيض تبتهج اسرة بارك بهطول المطر الذى زاد من رونق حديقتهم وازهارها .. ينتهى الفيلم فى نفس المكان ، ولكن اول الفيلم كان نهار داخلى فى القبو ، انتهى فى ليل داخلى فى القصر
*برع مهندس الديكور فى توظيف الديكور واتساقه مع فكرة السيناريو وسياق الأحداث ، فكان قبو كيم غير منظم وضيق لا يوحد به الا نافذة وحيدة فى مستوى الشارع ، وتم تصميم المرحاض فى مستوى اعلى من مكان تواجدهم ، بينما قصر بارك نجد تعدد طوابقه، وكثرة حجراته ، واناقة وروعة اثاثه ، والتحف والموتيڤات الأنيقة وتنظيمها وتنسيقها
ولعبت الاضاءة ايضا دورا فى تجسيد الفروق بين مستوِ كل اسرة فجاءت خافتة مثيرة للكآبة فى منزل كيم ، بينما جاءت متلألئة فى دلايات كهربائية رائعة ونجف فخم فى القصر .. ونرى القبو الذي اختاره زوج مديرة المنزل السابقة سجنا اختياريا له ، ظهر ضيقا وبه بعض من أثاث قليل ، إضاءة كئيبة
*لعبت الموسيقى التصويرية دورا رئيسيا فى الفيلم ، اضفت عليه جمالا فوق جماله ، وكانت تستحق ايضا جائزة ، فكانت تعبر عن الشخصيات ، وعن المواقف ، فكانت مثيرة تصاعدية فى مشهد حياكة المؤامرة التى أزاحوا بها مدبرة منزل بارك لتحتل مكانها زوجة كيم ، كما كانت الموسيقى مبهرة اثناء هطول المطر ، حزينة ومثيرة للشجن اثناء غرق قبو كيم ، وعالية ومثيرة للتوتر ، اثناء صراع اسرة كيم ومدبرة المنزل السابقة وزوجها ..وجاءت الموسيقى اثناء دقات مورس مخيفة ومثيرة للخوف والشجن واليأس
*برع الفنان المخضرم سونج كانج هو فى شخصية الاب كيم الذى جسد التناقض البشرى والمعاناة ، بحرفيته المعهودة ، ومعايشته لظروف قاسية تاركا كرامته جانبا ، اما باقى الفريق فقد نفذوا اوامر المخرج بكل دقة وقدموا لنا مباراة فى الاداء ، اشعرتنا بأنهم أناس يعيشون بيننا ، رغم اختلاف الجغرافيا ، و رغم عدم مشاهدتنا للأفلام من انتاج غير امريكي او اوروبي على الأغلب
*رغم طول مدة الفيلم، الا ان المونتير جعل بحرفيته؛ ايقاع الاحداث سريعة ومشوقة ولم يتسرب إلينا لحظة ملل ، فكان القطع على المشاهد بحرفية وذكاء ، خاصة فى مشاهد المكائد والحيل التى كانت أسرة كيم تحيكها من اجل التخلص من العاملين بمنزل بارك واحتلال مكانهم ، فكانت تتم بسرعة وفى مشاهد متقاطعة ، ومثيرة للضحك والدهشة ، واحيانا متوازية ، أما الإخراج فقد استطاع المخرج بونج ان يقدم لنا عملا متكامل العناصر ، وسيطر على ادواته بحرفية كبيرة ، وكان القائد والمايسترو الذى ابدع وتمكن من إخراج فيلم انتزع عددا كبيرا من جوائز المهرجانات ، أهمها السعفة الذهبية في مهرجان كان 2019 ، وأربع جوائز فى الأوسكار 2020.. لعله ينبه ويوقظ اصحاب الكروش حيتان الرأسمالية المتوحشة ، ويكون انذارا حتى لا يقع الانفجار