بقلم فاتن محمد
يعد المخرج والسيناريست الفذ داود عبد السيد من المخرجين الاستثنائيين في السينما المصرية في العقود الاخيرة.. يكتب اعماله ويخرجها بحرفية وفنية ملفتة، تجعل المتلقي في حالة م الدهشة والاستغراق.. وله عدد من الافلام قد لا يصل الى عدد اصابع اليدين، ولكنها كلها علامات شاهدة على ابداع ندر، بل انقرض في السينما المصرية في العقود الاخيرة الا من بعض الاستثناءات.. وكلما شاهدت فكلما رسائل البحر اشعر انه يحتاج للعديد من التأويلات والتحليل.. ولكنني هنا أقدم اول تحليل كتبته حين شاهدت الفيلم لأول مرة
*رسائل داود عبد السيد لغرقا الحياة
دعوة للحب والتسامح*
بحر الحياة مليان بغرقا الحياه
صرخت خش الموج في حلقي ملاه
قارب نجاه .. صرخت قالوا مفيش
غير بس هو الحب .. بس هو الحب قارب نجاه
عجبى
لا اعرف لماذا تذكرت هذه الرباعية للمبدع صلاح جاهين حين شاهدت فيلم المبدع داود عبد السيد (رسائل البحر)، ربما لان الفيلم يطرح نماذج من غرقا الحياة
يقدم الفيلم حالة شديدة العذوبة والرقة من خلال الصورة التي يجيد عبد السيد رسمها فيبهرنا دائما بنسج مفردات العمل وجدلها.. هذه الحالة التي تتركك للتأمل والانفصال عن عالم القبح الذي يلفنا جميعا ، حالة من القشعريرة اللذيذة تجعلك تكاد تبكى ربما فرحا بالإبداع والرقى والرقة التي تصدرها لك الصورة الموسيقى وإيحاءاتها مجتمعة فيقدم لنا سيناريو مختلف ؛ متناولا ثيمة طالما تناولها في أعمال سابقة وهي العجز في مواجهة الواقع الذي أضحى مريرا حيث نرى الشيخ حسنى في (الكيت كات) يعافر متحديا عجزه وواقعه ، ونرى يحيي ابو دبورة في (ارض الخوف) يتحدى الرعب الذي خلفه واقعه وقدره حين رماه في طريق الشر ، وفي فيلمنا نجد يحيي يتحدى حالته الخاصة ويترك مهنة الطب ليتحول الى صياد يجلس بالساعات لكسب قوت يومه فنراه اشبه بشخص بوهيمي اراد ان يعيش حياة بلا قيود بعدما قضى حياته يطيع اوامر ابيه
البحر يمثل الحياة التي تثور وتهب عواصفها مرات وتهدأ وتصالحنا احيانا
وغرقا الحياة نماذج قدمها عبد السيد يعجزون عن مواجهة واقع مفروض عليهم فيستسلمون سواء لقوة غاشمة يمثلها الحاج هاشم الذي يدمر الجمال والمعاني لجنى المال ، وحين تترك فرنشيسكا الايطالية شقتها التي عاشت حياتها فيها وتعتبر نفسها (اسكندرانية) ، ام لغواية كما فعلت كارلا ابنة فرنشيسكا ، وتستسلم نورا التي تتزوج زواج متعة تشبّهه بالدعارة وبدلا من مواجهة هذا الواقع الذي ترفضه ترتمي في أحضان يحيي الذي تعتبره (شربة مية وسط العطش الذي تعيشه) ، وقابيل الذي ظهر في حياة يحيي يستسلم لمصيره المنتظر اثر اجراء جراحة تسلبه ذاكرته التي تمثل حياة كاملة
في خضم هذا الواقع المرير يرسل البحر رسالته المبهمة والتي يعجز يحيى عن تفسيرها او فك طلاسمها، ولكنه الحب قارب النجاة.. والطريف ان الفيلم ينتهي بلقطة تجمع يحيي ومحبوبته نورا في قارب على سطح البحر في اشارة الى تقبل الحياة واستشراف لمستقبل أجمل رغم الواقع القبيح الذي أصر عبد السيد على تأكيده بتفجير هاشم الديناميت لاصطياد السمك الذي يطفو ميتا حول قارب يحيي ونورا
اجاد داود عبد السيد في تقديم سيناريو مختلف يحتمل العديد من القراءات، ولكن أبرز ما فيه تلك الحالة التي يُصدّرُها لنا والتي تتركنا مخدرين من الانتشاء، رغم الواقع شديد القسوة الا ان الرسالة التي يهديها الينا تُعيننا عليه
موسيقى راجح داود الذي يصر عبد السيد على التعاون معه عبرت عن هذه الحالة فكانت حوارا موازيا اتسق مع السيناريو فكانت تارة تعلق على الأحداث بالعزف المنفرد على البيانو وتارة بالموسيقى التي امتزجت بصوت البحر وأمواجه المتلاطمة اثناء النوة مرة وأمواجه الهادئة أخرى ..اختيار الاسكندرية وتجول الكاميرا في بانوراما لمعمار الإسكندرية القديم في بداية الفيلم كان من اروع المشاهد وادخلنا في بؤرة الأحداث فجعلنا نتوحد مع المدينة الجميلة التي اجاد أنسى ابو سيف في إبداع لافت لاختيار ديكور مناسب اتسق مع الاماكن والاحداث فجاء ديكور شقة فرنشيسكا يغلب عليه الطابع الكلاسيكي في هدوء دون بهرجة ، وديكور شقة يحيي بسيط اما ديكور شقة نورا فغلب عليه اللون الاحمر والفخامة والازدحام ليعبر عن الحالة التي تعيشها مع رجل ثرى و فظ
اجاد مدير التصوير “أحمد المرسي” الذي قدم لنا صورا أشبه بتابلوهات جاءت من عصر النهضة سواء ثورة البحر وتعانقه مع السماء، او معمار الإسكندرية الذي احالنا الى عبق الماضي الجميل.. المنتيرة منى ربيع قدمت مونتاجا حافظ على ايقاع الفيلم وتعاملت بتفهم مع الحالة التي أصر المخرج على تصديرها لنا
اجاد المخرج في اختيار وادارة ابطاله؛ تجاوز آسر ياسين ذاته والذي راهن النقاد والجمهور معا عليه فكان مُجيدا لاستخدام ادواته وجاء تميزه من اجادته للإداء الداخلي وتفهمه للشخصية وتعامله معها بحذر فلم يقع في فخ المبالغة ولا الاداء الميلودرامي. وظهرت بسمة في اوج نضجها بأداء أقرب للسهل الممتنع فانسابت الشخصية برقة وعذوبة وتسللت الينا فرغم انها لا تعيش حياة سوية ويراها البعض انها خاطئة الا انها بعفويتها وتفهمها للشخصية جعلتنا نتعاطف معها. اما المفاجأة الرائعة والهدية التي اهدها لنا عبد السيد فهي الفنانة المخرجة المبدعة نبيهة لطفي التي قدمت شخصية حية بيننا لطالما تقابلنا معها وحدثتنا بنفس البساطة والحب والحميمية التي ادت بها بإجادة تامة لطفي. وبدون ابتذال او فجاجة -تحسب للمخرج- تفاجئنا الممثلة الواعدة سامية أسعد في تجسيدها لشخصية كارلا فأقنعتنا انها ايطالية مصرية بتفهم تام لأبعاد الشخصية، ومثلها دعاء حجازي في دور صديقتها المثلية، اما الفنان محمد لطفي فاستطاع ان يقدم تنويعة على شخصية البودى جارد دون تقليد لما قدمه من قبل حيث مكنه دوره ورسم الشخصية في تقديم أداء مختلف يحسب له.. اما مي كساب فيكفيها انها شاركت مع مخرج كبير وبين مجموعة تميزت واجادت فلم يُمكّنها مساحة دورها في اظهار مواهبها فأدت في حدود دورها.
المخرج داود عبد السيد الذي ابتعد عن السينما سبع سنوات ليعود برسائل أشبه بورود ذات عبق ورحيق تخللتنا وعبرت لقلوبنا بصدقها وعفويتها