الدكتور خالد قوطرش 2000
من دفترِ الذّكرياتِ
عثرت على هذه القراءة بين أوراقي القديمة بالمصادفة المحضة.. تلك المصادفة التي تجعلنا نتسلّق جبلًا ثمّ نتدحرج من ذراه “كجلمودِ صخرٍ حطَّهُ السَّيلِ من علِ”
كنت كلّ صيف منذ عام 1996 ألتقي صديقي الكاتب محمد خالد رمضان ” أبو عبدو” في دمشق والزبداني، ثمّ نقوم بزيارات إلى بعض الأدباء السوريين، ومنهم الدكتور خالد قوطرش 1912- 2001 وكان عمره فوق الثمانين عامًا
لم أجد في حياتي إنسانًا مثقّفًا بسيطًا متواضعًا مثله
وقد كتب مقالة عن بعض نصوصي
الدكتور: خالد قوطرش
الشاعر جميل داري في ديوانيه “ظلال الكلام”، و” إنّ القرى لم تنتظر شهداءها” وكلا الديوانين من منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، نشر ديوان ” ظلال الكلام” عام 1995 ويقع (71) صفحة، ويحوي (11) قصيدة، ونشر ديوان ” إنّ القرى لم تنتظر شهداءها” عام 1993 ويقع في (166) صفحة
قدّم الشاعر ديوانه ” إنّ القرى” بمقدّمة مستفيضة عن الشعر تكاد تكون هي أيضاً قصيدة من قصائد الديوان، فقد حبكت بألفاظ رقيقة عذبة، وصيغت صياغة موزونة موسيقية، وبأسلوب أدبي رفيع، وضمت صورًا وأحاسيس، هي للشعر أقرب من النثر، لوحاته ذات ألوان وانطباعات مبتكرة مستحدثة، قطفت من جنة عبقرية وشيطان الشاعر، ولكلّ شاعر شيطان يلهم قلبه، ويحرّك وجدانه، كلما هاج به الهوج، واستيقظت الذكرى، ومن عادة المحزون أن يتذكّر
الشاعر ساهٍ تائهٌ في بيداء الذكريات وأجنّة الخيالات، وقد تكون محبوبته من الواقع، وقد تكون من نسيج الخيال، وهذا لا يهمّ الشاعر كثيرًا، فكلّ ما في الأمر أنّه تائه ، الحياة سراب الخيال
صدر الشاعر جميل داري ديوانه بقصيدة تحمل اسم الديوان كما جرت العادة عند مؤلّفي القصص القصيرة، حيث يسمون مجموعتهم القصصية باسم القصة الأولى من الكتاب
قصيدة ” إنّ القرى” تقع في عشر صفحات، وهي أطول قصيدة من الديوان، ضمن الشاعر فيها أحاسيسه ومآسيه وأحزانه وانفعالاته الوطنية والقومية والإنسانية، وثورة المظلومين والمحرومين على الظلم والحرمان والقهر، والديوان يجري على هذا النمط المستحدث، محافظًا على الوزن والإيقاع، وأحيانًا على القافية، ووحدة المعاني والصور والانسجام العاطفي والفعلي، لا شطط ولا تخبّط ولا عشوائية في الألفاظ والصور والتراكيب، لا ركاكة ولا مطبات ولا صرعات متوخّيًا الإبهام والغموض والتعقيد، ظنًّا من بعضهم أنّ في الكلام الغامض المبهم فلسفة عالية، يصعب على البسطاء فهمها
ذلك من سخف الذين يعجزون عن صياغة الكلام الواضح شعرًا أو نثرًا، فالفصاحة في الوضوح، والبيان في السهل الممتنع الذي يجمع بين الأصالة الجزلة والحداثة المبدعة
الشاعر جميل داري متمكّن من الشعر العربي الأصيل، قرأ المعلّقات وحفظها، وقرأ شعر بشار والمتنبي وابن الرومي والمعري
وقرأ الشعر الحديث وتأثّر بمحاسنه وروائعه وترجمات شكسبير وغوته وهوغو
فهو شاعر أصيل حديث
إنّي أنقل للقارئ الكريم بعض من أبيات قصيدته الرائعة ” إنّ القرى”، فهي نموذج من هذا الشعر الحديث الذي يجمع في وكناته عذوبة الألفاظ وموسيقا السبك وأزاهير الألوان وبدائع المعاني
لا يستقرّ اللؤلؤ إلّا في الأعماق، فالشعر كما تعلمون قبل أن يكون وزنًا وقافية أو بحرًا من بحور الخليل هو في الحقيقة أحاسيس وصور وانفعالات مبعثها الواقع والخيال، فلا واقع بدون خيال ولا خيال بدون واقع، فهما قطبا الحياة وينبوعا الوجود
والشاعر هو زهرة هذين القطبين: الواقع والخيال
إنّي لا أشكّ في أنّ شعر جميل داري سيترك بصمات عميقة في حركة الشعر العربي الحديث، كما ترك أولئك الرواد بصماتهم، فكان لهم ما أرادوا، وأرادت حتمية التطور
إليكم المقطع المنوه عنه من قصيدة “إنّ القرى لم تنتظر شهداءها” في السطر الخامس من الأعلى
ما عندكمْ يخبو
وما عندي يشعُّ
وما يشعُّ هو المدى المخضوضرُ المجبولُ
من ألقِ البنفسجِ والرصاصْ
فاذهبْ جفاءً
أيُّها الزَّبدُ المهدَّدُ بالقصاصْ
كانَتْ تباغتني مساءً
كلُّ قافلةِ الثَّكالى واليتامى
كلُّ عشَّاقِ الخلاصْ