خالد خضير الصالحي البصـــــــرة
مسك تفاحتين بكف واحدة
“استجدي رحمة الجمال ان تهبني قطرة ندى
لكن ما من مجيب لتوسلات المقهورين”
(يانيس ريتسوس)
1
نبهتني معاينتي لتجربة الرسام العراقي المغترب يوسف الناصر إلى وجوب مراعاة أو التوكيد على اشتراطات عديدة منها إعادة التفريق القديم مابين (الحقيقة) و(المعرفة) في الفن، ونعني بالفن هنا الرسم تحديدا، فنحن هنا، كما نزعم دائما، لسنا معنيين بالمعرفة قدر اهتمامنا بالحقيقة، وهو أمر تتشارك فيه أنماط الفن والإبداع المتنوعة كما هو حادث في السرد أو المسرح، فان الخلل في المعرفة لا يغير طبيعة الأثر الفني أو يخرجه من النسق المتواضع عليه، فتغير عدد الحاضرين في لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافينشي مثلا لا يمكن ان يخلّ بحقيقة كون اللوحة لوحةً، كما ان وجود خطأ إملائي أو نحوي أو منطقي في لوحة للخط العربي، كما ان عدم التمكن من قراءة او ترجمة لوحة مكتوبة بخطوط عربية ولكن بلغة فارسية مثلا، لا يخل بصفتها الفنية، فالحقيقة تكمن في الجمال والذي هو حدوث الحقيقة في العمل الفني، أي ان الجمال كامن في الشكل وفي اللوحة كواقعة مادية.. حتى ان جوهر الفنان، وجوهر الفن يكمنان في (العمل الفني)تحديدا، وهذه هي الإضافة الأهم التي أحدثها هيدجر، فلم يكن يحاول ان يتجه إلى دراسة شخصية الفنان، أو عملية الإبداع الفني، بل مضى مباشرة إلى (العمل الفني) باعتباره (ظاهرة معيشة) من خلال ما اسماه (شيئية العمل الفني) واكتشاف سمة الشيئية في (الشيء)” الذي يظهر بنفسه إلى الوجود
2
لقد عرّف هيدجر (الشيء) ثلاثة تعريفات هي
أولا، (الشيء) جوهر يحمل الصفات المميزة له، وثانيا، (الشيء) هو ما يدرك بالحواس، وثالثا، (الشيء) مادة تشكلت من خلال الصورة، أي أنه (المادة المتشكلة) التي تحمل (صورة معينة)، ويؤكد أن ما يخلع على (الشيء) صلابته، وكثافته، وتماسكه إنما هو (ماديته)
3
لا يتناول الناقد كل التجارب، فليست تلك مهمته وليس ذلك باستطاعته، كما أن للناقد مشروعا يتناول استنادا إليه التجارب التي تنسجم ومشروعه النقدي، وقد كتبت مرة في مجلة (الأديب المعاصر) قبل عدة عقود “ان تناول أية تجربة إبداعية هو امتحان لطرائقنا النقدية” وأضيف الآن بأن التجربة الخاضعة للمعاينة، أو فهمنا و تأويلنا لها تحديدا، ستكون جزءا من مشروعنا النقدي، فكانت تجربة الرسام يوسف الناصر تخضع لهذا الأمر، بالنسبة لنا على الأقل، وقد سبق لنا وكتبنا عنها مقالا سابقا ولكننا نشعر بالتقصير تجاهها، فهي تجربة تستحق الملاحقة الحثيثة من المهتمين، وهو ما لم يهتم به إلا البعض من المهتمين
4
لا نعتقد ان تمكن الرسام يوسف الناصر من “وضع الألم والرسم على طاولة تشريح واحدة” هو الأمر الحاسم في تجربته، والى الدرجة التي تصورها البعض، فالمهم برأينا أن هذا الرسام استطاع أن يجد المادة (بالمعنى الواسع للمادة والتي تتضمن : اللون، والمواد الملصقة، والتأثيرات التقنية…) التي تنتج صورة بصرية تعبر عن الألم وتشجبه، فالرسام غير مطلوب منه أن يقدم تقارير صحفية حول موضوعات تشغله، بل يتعامل مع مادة بصرية عليها أن تعبر دون تدخلات لغوية، وبأقل قدر من السردية التي تنتمي إلى اللغة
5
إن الأمر المهم في تجربة الرسام يوسف الناصر أنه تمكن من المحافظة على (مشدات) العمل الفني متوترة دائما، وقد تعمدنا استخدام تعبير (المشدات) للإيحاء بالمشدات الداخلية التي تستخدمها النساء لتحافظ على تناسق الجسد الأنثوي، فقد حرص يوسف الناصر على ان تبدو لوحاته مشدودة رغم أحجامها الضخمة، فقد تمكن هذا الرسام من مسك التفاحتين معا بكف واحدة عندما حافظ على التوتر القلق في جانبين شديدي الأهمية والخطورة والصعوبة:
التوازن الأول، كان بين شيئية العمل الفني التي نعتبرها البنية التحتية للعمل الفني، و بين (الشكل الجمالي) وكافة الهوامش التي تتجمع خارج الواقعة البصرية ونعتبرها بنية فوقية، وقد كان هيدجر هو من قرر هاتين البنيتين في محاضرته الشهيرة (أصل العمل الفني) التي ألقاها عام 1935 ونشرها في كتابه (متاهات) عام 1950
التوازن الثاني، من أسباب الشد الموجودة في تجربة يوسف الناصر راجع إلى تحقق توازن آخر يبدو أوضح حين يتحقق في التصوير الفوتوغرافي، وفي اللوحات المشخصة التي تصور الواقع، أو اللوحات التعبيرية التي توحي بمشخصاته عبر إيماءة طفيفة.. وهو توازن مهم يخص “الحقيقة بوصفها النزاع القديم بين “الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء”، أو بين “الانكشاف والإخفاء”، أو “الفجوة الضوئية والخفاء”
6
لقد كان سر النجاح الأكبر لتجربة يوسف الناصر تمكنه طوال تجربته، وفي معرض (مطر أسود) مثلا، من تحويل الموضوع إلى: علاقات لونية يهيمن عليها اللون الأسود الفاحم غالبا، والى علاقات شكلية أي إلى (شكل جمالي)، فلم يعد الموضوع سردا نثريا قابلا للتحول إلى لغة حكائية.. لقد بقي الموضوع واقعة بصرية.. وهذا سر الأسرار في الرسم.. وفي تجربة يوسف الناصر
7
يبدو ان موضوع اللوحة يفرض على يوسف الناصر استراتيجيته، فهو يفكر وينفذ بنفس الطريقة : فحينما تحتدم الانفعالات، وخاصة في الموضوعات الأليمة التي تهيج فيها العواطف كما في معرضه السابق (مطر أسود) كان يلقي ما يعن له فجـّا على اللوحة دون إعمالٍ عقلي في ترتيب عناصر اللوحة، وتشذيب موضوعها، فيسيح معمار اللوحة كما تسيح أشكالها على سطح اللوحة، بينما نجده رساما من نمط آخر حينما يرسم موضوعات يكون الفعل الجوهري فيها للوجود الشيئي للوحة؛ فتختزل الأشكال، والموضوعات بشكل مقنن، وتجيء اللوحة بشكل سطوح مسيطر عليها تماما، ولا يتبقى من الموضوع إلا تلميحات طفيفة لا يشكل الموضوع فيها إلا مناسبة للرسم ووضع مادة الرسم على سطح اللوحة
8
أن رسم يوسف الناصر مقارَنة بالقلة من مجايليه … منشق عن السائد”
(شاكر لعيبي)
9
“سعى الناصر إلى أن يمزج ما بين وعيه وعاطفته، بين عقله وقلبه، بين رغبته في التعبير عن مزاجه المحطم ومحاولته تجسيد ما جرى لبلده الذي يعيش بعيدا عنه منذ أكثر من ثلاثة عقود. رسوم تختصر موقفا إنسانيا أقل ما يقال عنه انه فجائعي على المستويين العام والخاص، غير أنها في الوقت نفسه لم تكن مجرد مراث، على الأقل على مستوى الذات الجريحة. كان سؤال الفجيعة أكثر دهاء ومكرا. فمن خلال تفكيك متأن، هو أشبه بعملية طبية أقدم الناصر على وضع الألم والرسم على طاولة تشريح واحدة. في اللحظة عينها اكتشف الرسام أن النقد الصارم والمحكم هو ما يجب أن يقوم به لكي يتحرر من عجزه العاطفي”
(فاروق يوسف)
10
“ان مشروع المطر الأسود ليوسف الناصر ينطوي على شهادة حول كارثة الحرب في العراق وأدانته للرعب ومأساة الحرب ومخلفاتها أطفال وجنود وشباب ومسنون جميعاً في قبضة تراجيديا الحرب والخوف والرعب واللوعة والألم وهي ثمار مشاعر الإنسان في الحرب فكيف يمكن وصف ذلك بصرياً… انه لا يصور تلك اللحظات تصويراً حيادياً بل يدخل في خضم اللحظة ليثير لحظة الخوف والرعب الأولى من القصف القادم من الطائرات انها من أكثر اللوحات التي جسدت صورة الألم والحرب إذ تتداخل الوجوه المرعوبة من الشظايا، شظايا الهلاك لتخرج غير مكتملة وهو لا يبسط التفاصيل ويظهرها لتكون صورة فوتوغرافية عن واقع المأساة ويشيد الرموز ويترك المتلقي في حالة تفكير وتساؤل؟!”
(أليكس روتا)