كنتُ محظوظاً، في سفرة أخيرة لي، بمشاهدة عرض الباليه الشهير «كارمن» من تأليف الفرنسي جورج بيزيه. و«كارمن» واحد من أشهر أعمال فن الباليه، مستوحى من رواية توصف بالعاطفية والمأساوية، للكاتب الفرنسي بروسيير مريميه تحت العنوان نفسه، وما زال يقدّم على عشرات المسارح في مختلف بلدان العالم، وبدأ بيزيه العمل عليه في العام 1873، وانتهى منه بعد عام، ليعرض أول مرة في العام 1875.
موضوع العرض، الذي تدور أحداثه في إسبانيا، قصة حب بين رجل وامرأة غجرية متمردة، ومتقلبة العواطف، تتنقل كفراشة من وردة إلى أخرى، استطاعت أن تحوّل الرجل الذي توله في حبها من شرطي مطيع إلى شخص مطلوب للعدالة، فمن أجلها يهجر الشرطي (جوزيه)، وهذا هو اسمه، خطيبته البريئة والجميلة، لكن كارمن سرعان ما تخذله وتتعلق برجل آخر، وتحت تأثير حب جوزيه لها وغيرته، أقدم على طعنها بسكين في صدرها، ليقوده ذلك إلى ساحة الإعدام، فيما تذهب هي لملاقاة عشيقها الأخير الذي بسببه هجرت جوزيه، في مصارعة للثيران تنتهي بلفظها لأنفاسها الأخيرة وسط هتاف الجماهير، والرجل يتأوه بالقول: «لقد قتلتُ المرأة التي أحب»، فيما ينشد المشاهدون: «أيها المصارع/ خذ حذرك/ وتذكّر أن هناك عيناً سوداء/ تراقبك أثناء القتال/ وأن الحب في انتظارك».
تحتوي أوبرا «كارمن» على اثنتين من أشهر الأغاني التي صاغها بيزيه، الأولى هي «الهافانا الكوبية»، والثانية هي «مصارع الثيران»، ويشير الدارسون إلى أن بيزيه استوحى موسيقى «كارمن» من منطقة إشبيليه في الجنوب الإسباني، ولكنه وظّف كل مكامن عبقريته في هذا العمل الذي خلّده تاريخ الفن، لذا كانت خيبة بيزيه كبيرة بسبب الاستقبال الفاتر للعمل عند عرضه في أسابيعه الأولى، بل إنه تعرض لنقدٍ حاد من النقّاد الذين اعتبروا العمل غير أخلاقي ويتعارض مع قيمة الفضيلة.
مَن ردّوا الاعتبار إلى «كارمن» هم موسيقيون عمالقة، في مقدمتهم الروسي بيتر تشايكوفسكي (1840 – 1893)، حيث يقال إنه، وآخرين، حضروا العرض أكثر من عشرين مرة، واعتبروه أفضل أوبرا أنتجت منذ الحرب الفرنسية الروسية، كأنهم كانوا يتنبأون بمجدها القادم، الذي لم تشأ الأقدار لبيزيه أن يرى ولو بعضه، فقد توفي مبكراً عن ستة وثلاثين عاماً.
نستحضر هذه المعلومة عن نبوءة تشايكوفسكي، الروسي، بنجاح «كارمن» بيزيه، الفرنسي، لنؤكد على وحدة الثقافة الإنسانية، فيما تصدمنا أخبار عن دعوة دوائر غربية، توصف بالثقافية، لإلغاء إرث تشايكوفسكي الموسيقي، في إطار مساعي عزل روسيا على خلفية حرب أوكرانيا، بصورة لم تستثن منها لا اسم هذا الموسيقي العظيم، وأسماء آخرين كديستويفسكي وتولستوي وسواهما.