ما أعذب كلمات عبد الرحمن الأبنودي التي خلدها صوت نجاة الصغيرة، وهو يملي على لسان الحبيبة الوصايا التي حملتها في رسالة للحبيب نقلتها له حمامة: «على طرف جناحك يا حمام حاربط لك مكتوبي/ واملاه أشواقي وسلامي توصلها لمحبوبي/ واحلف له يمين بعيني التنين/ قلبي اشتاق له وبينده له/ من بعده أنا عايشة لأحلامي وحنيني لحبيبي/ بدعي لك توصل بسلامة من قلبي بدعي لك/ يسلملي جناحك يا حمام ويدوم لنا جميلك» إلى آخر الأغنية المليئة بالشجن.
تذكرنا هذه الأغنية بتوظيف نقل الرسائل التي عهد بها الإنسان إلى نوعٍ من الحمام عرف بـ “حمام الزاجل”، الذي يوصف بتعلقه بالوطن الذي ينطلق منه، ومهما بعد فإنه يعود إليه ثانيةً، حيث كانوا يربطون الرسائل في رجله ليطير بها وينقلها إلى من يشاؤون، يوم لم تكن في الدنيا وسائط نقل حديثة كالقطارات والطائرات. وعلى ذمة طيبة الذكر «ويكبيديا» فإن هذا النوع من أصول إفريقية، ويكثر في السودان وليبيا والجزائر. وفي كتابه «الحيوان» قال أديبنا الجاحظ: «ولولا الحمام الهدّي (الزاجل)، لما جازَ أن يعلم أهل الرّقّة والموصل وبغداد ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في يوم واحد، حتى إن الحادثة لتكون بالكوفة غدوةً فيعلم أهل البصرة عشيةً بذلك».
ليست رسائل الحب وحدها التي كان حمام الزاجل ينقلها، والتي برع الأبنودي ونجاة في التعبير عنها، وإنما أيضاً رسائل الحرب. الثنائية الأزلية التي اختصرتها لغتنا العربية في مفردتين متشابهتين مكتفية بإضافة حرف واحد في إحداهما: الحب والحرب، حتى قيل عن الفنان السعودي الراحل الكبير طلال مدّاح، الذي عُرف بلثغة في لسانه لم تمكنه من نطق حرف الراء، إنه حوّل الحرب إلى حب.
يقال إن حمام الزاجل استخدم لأول مرة في الأغراض الحربية عام 24 قبل الميلاد عندما حاصرت جيوش القائد الروماني، ماركوس أنطونيوس، قوات القائد بروتس، حيث كان القائد العسكري أغسطس الثالث على اتصال دائم مع بروتس للاطلاع على صموده في الحصار بالرسائل التي يحملها الحمام إليه.
حكاية طازجة جرى تداولها مؤخراً أعادت لنا كل هذه الحكايات، حيث أفرجت الشرطة الهندية عن حمامة مشتبه فيها بعد احتجازها 8 شهور وأطلقتها في البرية. بدأت أزمة الحمامة عندما تم الإمساك بها قرب ميناء في مومباي وقد رُبطت حلقتان في ساقيها، وكتبت عليهما كلمات تبدو صينية، فاشتبهت الشرطة في تورط الحمامة بتنفيذ مهمة تجسس، قبل أن يتبين أنها من طيور السباقات في تايوان، وهربت إلى الهند، ما حمل الشرطة الهندية على نقلها إلى جمعية بومباي للرفق بالحيوان، وهناك أطلق الأطباء سراحها قبل أيام.