عشر سنوات على ارتحالك، كأنّي بهذا الارتحال كلُّ الحضور.
من 9 شباط 2014 إلى 9 شباط 2024، عقد من الدَّمع لم يجفَّ، ولن.
أناديك بصوت الصِّينيِّ الَّذي حدَّثك ذات يوم، ووشى لك ألَّا تضع لشيء نهاية، لأنَّك تبقى من البدايات، مهما أوغَلْت في الغياب، أولَّ البدايات. كَتَبْتَ أنت:
“قَالَ لِيَ الصِّينِيُّ يَوْمًا
وَطُيُورُ الْبَجَعِ الْبَرِّيِّ كَانَتْ رَاحِلَهْ:
لَا نِهَايَاتَ لِشَيْءٍ.
لَا تَضَعْ فِي مُنْتَهَى أَيِّ كَلَامٍ نُقْطَةً،
ضَعْ فَاصِلَهْ”.
سأضع فاصلة، لأنَّك برحيلك، جَعَلْتَني أدركُ ما معنى عنوانِ ديوانك “كلُّك عندي إِلَّا أنت”. ما غاب حبرك، ولا التماع عينيك، ولا نداوة صوتك، ولا روحك الأنيق، ولا سنبلة قامتك… ولا عبارة وداعك تختم بها كلَّ لقاء بمن تحبُّ: “أبوسُ روحك”. غاب جسدُك، فحسب، فبقيتَ كلَّك عندي إلَّا أنت.
جوزف حرب المرتحل على صهوة حبر، كما ولد، هو كتابُه، كتابه ليس إلَّا. وسنابلُ سِنِيِّهِ، القليلة، خصورًا وعقودًا، هي نصوصُه، وقصائدُ أغانيه… ودواوينُه.
ذاتَ غروبٍ، معَ الغروب… قَطَفَتْهُ “شَجَرَةُ الأكاسيا”، لنفسِها، وأرسلته، بأناقةِ روحِه، إلى الحياة. فأقامَ لحضوره الشَّهيِّ، “مملكة الخبز والورد”، ألبس عروسها أسوارة، امتشق من دهشته بها، “الخصرَ – والمزمارُ” التماعُ عينيه. ما رقص، ولا غنَّى، بل غمس قربان روحها بالحبر، ليتناوله أهل الكلمات، فتطهر نفوسُهم… فيما رهبان الهواء يدقُّون أجراسَ الحور.
ولـ “السَّيِّدة البيضاءِ في شهوتها الكحليَّة“، رفع، بـ “مقصّ الحبر“، مقامًا للقصيدة، فطار الجسد عن غصن ترابه إلى سماء لم تفرش سجَّاد زرقتها بعد.
كان، قبل أن يبيت “السّنونو تحت شمسيِّة بنفسج”، عائدًا من طفولة صافية كماء نبع، ناداه “شيخُ الغيم، وعكَّازُه الرِّيح”، وقال: يا فتى الشِّعرِ الكبير، إذا عرفتَ من أنا، اكتَنَهْتَ سرَّ الشِّعر. أنا “قميصي الوزَّال وقبَّعتي العصافير”، ولك الشِّيح والوزَّال والنَّهر والقامة الصَّخر والوجه الملاك.
ومُذ عَرف جوزف، أخفى السِّرَّ في “كتاب الدَّمع”… وهو يمسح لأبيه نظَّارتيه كلَّ يوم “ليقرأ الجريده، بالرَّغم من أيَّامه البعيده”.
جفَّ الدَّمعُ، أعاره الكون “المِحبرة”. طرح الأسئلة جميعًا، لأنَّ الدِّين وجد أجوبته… ومشى. وإذ اقترَب جوزف من القبض على الحقيقة، صاح: “طالِعْ عَ بالي فِلّ”. أتراه فعلًا سيرحل؟ سألتُ يومذاك، وقد هيَّأ “رخام الماء”، لتلك اللَّحظة؟
انتظرتُ، قليلًا، فهَتفَتْ عيناه الغائرتان بين قافية ودالية: لا، يا أحبَّةُ، لن أرحل، لأنْ “أجملُ ما في الأرض أن أبقى عليها”. غططتُ ابتسامتي بالخمر الرَّاشح من أيَّامه الهانئة بين ورقة وقلم، في صومعته “المعمريَّة” (نسبة إلى قريته المعمريَّة الجنوبيَّة)، ولم أخفِ فرحًا بأنَّه باقٍ بيننا ملء القصيدة والأغنية وبحَّة الصوت الَّذي راحت تعصف بمجراه ريح وآلام. سرقتُ من “دواة المسك” الَّتي خلَّفها على طاولته، كثيرَ شعر، لأحسَّ أنَّ للحياة معنًى، وللجمال مساحةً وسعَ آهةٍ فيروزيَّة بين “زَعَلٍ طَوَّل” وصخرةٍ هي “وجه بحَّار قديم” على شاطئ بيروت، وورقِ أيلول الأصفر…
آه يا معمريُّ، كم كنتَ في خواتيم أيَّامك تخشى على الغد، وتقول “كم قديمٌ غدًا”، فتوقد أنينك النَّبيل نارًا في قناديل أوراقك، علَّ البشاعات الحائمة حوله، كفراشات مساء، تقترب فتلثم، فتحترق.
كنتَ كأنْ “قلمٌ واحدٌ في ثلاث أصابع” ما انحنى لها جبين، ولا أنبتت كيفما حفَّت على الورق، سوى ياسمين ودفلى وبنفسج وأقحوان. فزرتَنا، وزرتَ الوجود، لا وهمًا ولا سرابًا، ليس كما عنوَنْتَ ديوانك المحكيَّ ما قبلَ الأخير “زِرتَكْ قَصَبْ فِلَّيت ناي”، بل حللت بيننا نايًا… عزفت نفسك ورحلت.
هو سفر تكوين يكتب من جديد:
قال الله: لتكن شمس وكواكب، فكانت.
ليكن ماء، فكان.
ليكن… ليكن، ليكن… وكلُّه كان.
… وليكن شعرٌ
فكان جوزف حرب.
ولكن قبل أن يهال التُّراب على قبرك… قبضتُ على حقيقة. كم كنت جميلًا يا جوزف، وسط غابة البشاعة والحسد الَّتي تسمى “حركة ثقافيَّة”، هال أقلامًا فيها أن تكون الأعلى والأشمل والأكثف والأرقَّ والأحلى والأرقى والأنبل، فأطلَقَتِ العنان لفحمٍ حاقدٍ عليك لم يستطع أن يتناول منك حتَّى غبارًا متساقطًا عن غصن شجرتك العالية، أو من أوراقك القديمة. أوَتسأل بعد عن وجع الوطن، يا جوزف، ولماذا تطفو على صفحة مائه كلُّ هذه الطَّحالب؟ هي هذه “الأقلام” عِلَّتُه ووجهه المقيت، ولا خلاص له إلَّا بأن تخجل من نفسها وتنسحب إلى الحقيقة، وتحبَّ… فحسب.
حسبي، يا “قدِّيس الشعر”، كما سمَّيتُك، أنِّي عرفتك، وقابلتُك، وصافحتُك، وقبَّلتُ جبينك، ففسحت لي سهول محبَّتك بقمحها وشمسها وعصافيرها. وحسبي، قبل أسابيع من غيابك، أنَّني أسمعتُك، ما كتبتُ عن “كم قديم غدًا”… فعاجلتني بخجل وتواضع أين منهما السنابل جميعًا.
كتبت فيك يا معمريّ، لأقرن اسمك بمسقطك حيث بنيت قصرًا من نبل وجمال:
يَا مَعْمَرِيُّ
كُلَّمَا قَرَأْتُكْ
يَرْشَحُ مِنْ قِنْدِيلِ دِيوَانِكَ،
فِي قَلْبِي،
نَدَاكَ رَاهِبًا… وَزَيْتُكْ.
أَدْخُلُ دَيْرَكَ الْمُقَدَّسَ بِكُحْلِيِّ الْمَحَابِرِ،
وَأَتْلُو فِي كَنِيسَةِ الْقَوَافِي سُبْحَتِي،
أَرَاكَ جَاثِيًا قُبَالَتِي
أَمَامَ مَذْبَحِ الْكَلَامِ
تُنْهِكُ الصَّلَاةَ شِعْرًا وَبَخُورًا،
تَسْبِقُ الْوَقْتَ إِلَى شَوْكِ الزَّمَانِ،
كَيْ تَجُمَّ الزَّهْرَ قَبْلَ يَذْبُلُ الزَّهْرُ،
فَيُدْمِي مِرْفَقَيْكَ وَقْتُكْ…
أَطْوِي الْكِتَابَ… مُتْرَعًا،
تَعُودُ مِنْ كِتَابِكَ الْمُشْرَعِ فِي رُوحِي،
وَقَدْ نَاوَلْتَنِي، يَا مَعْمَرِيُّ، جَسَدَ الْقَصِيدَهْ،
مَغْفُورَةً آَثَامِيَ الْقَدِيمَةُ الْجَدِيدَهْ.
أُحِسُّنِي غَطَطْتُ قُرْبَانَةَ شِعْرِكَ
بِخَمْرٍ لَمْ تُعَتِّقِ الْخَوَابِي مِثْلَهُ يومًا
– وَهَلْ خَابِيَةٌ إِلَّا يَدَاكَ حِضْنُهَا، وَصَمْتُكْ؟ –
أَخَالُنِي قَدْ ذُقْتُهَا وَذُقْتُكْ.
انتهى قدَّاس الوداعِ، فأعطِني بركتك… لأمضي إلى أوراقك الكثيرة، فأعرف وأُسَرَّ أنَّك كلُّك عندي إلَّا أنت.