يقيم المعهد الأنطوني يوم الخميس الواقع فيه 15 شباط 2024 ندوة عن الأديبة ميّ زياده التي عانت، في آخر أيام حياتها، من ظلم الأقربين ولم يقف إلى جانبها يومها إلّا قلّة من الأوفياء، أبرزهم ابن قريتي الفريكة، الفيلسوف أمين الريحاني الذي وثّق علاقتهما في كتاب عنوانه “قصتي مع ميّ“، والفيلسوف أنطون سعاده، الذي، دائماً، في الحديث عن ميّ زياده، يغيّب دوره. أتمنى أن يكون هذا التغييب غير مقصود، ولتوثيق دور سعاده في قصّة ميّ أسلّط الضوء على مقالته المنشورة في 15/12/1941.
“آخر أيام الأديبة مي زياده.
أنطون سعاده
15/12/1941
ليس من عادتي أن أعير الحوادث والأمور التي لا علاقة وثيقة لها بالقضية القومية، التي وقفت نفسي عليها، أو بالنظريات والقضايا الفلسفية الحية اهتماماً كبيراً، مهما كانت هذه الحوادث أو الأمور خطيرة من وجه آخر. ولكن لم يكد يقع نظري على خبر وفاة الكاتبة السورية الذائعة الصيت، ماري زياده المعروفة في عالم الأدب بلقب «مي»، حتى شعرت أنّ خواطري وتأملاتي تتجمع وتقف كلها عنده.
الخبر بسيط وارد بطريق نيويورك. ومحصّله أنّ مي توفيت حوالى 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في أحد مستشفيات القاهرة، وأنها كانت في الأشهر الأخيرة عائشة في عزلة، وأنها انقطعت عن الأكل لثلاثة أيام قبل وفاتها. ولكن هذا الخبر البسيط أثار فيَّ ما أثاره أول خبر بلغني في بيروت أواسط شهر يناير/كانون الثاني 1938، أنّ الكاتبة السورية الكبيرة مسجونة في مستشفى ربيز بتهمة الجنون وهي سليمة النفس.
لم تنجب سورية في القرون الأخيرة من النساء أديبة كبيرة كماري زياده. وأقول بكل تأكيد إني لم أجد في من قرأت ولا في من حادثت من أدباء سورية ومصر سوى نفر قليل جداً من الأدباء الرجال الذين يضارعونها ثقافة وشعوراً وفناً.
كانت «مي» بركة من بركات العناية لأمة صريعة، ولذلك كانت بركة ضائعة. كانت كرمة نابتة في أرض شوك كثير، فالتف عليها الشوك وخنقها خنقاً. وما كانت أيام «مي» الأخيرة غير أيام اختناق بطيء!
عاشت «مي القسم الأكبر من حياة نضجها في مصر واكتسبت الجنسية المصرية وحاولت أن تشعر كمصرية وأن تمزج حياتها بحياة مصر، فذهبت حياتها في هذه المحاولة التوفيقية التي لا يمكن الآن الجزم بمبلغ نجاحها. وإذا تركنا هذه الناحية جانباً وأخذنا ناحية علاقة «مي» بوطنها الأصلي وجدنا أنها كانت من أشأم العلاقات.
إنّ وطن «مي» الأصلي، الذي يجري فيه اليوم صراع موت وحياة بين يقظة الوجدان القومي وعماوة مثالب الانحطاط، كان الغول الذي أنشب مخلبه في نفسها وجسدها، وكاد يطبق أشداقه عليها في مصح العصفورية أو في مستشفى ربيز للعلل الجراحية. وفيما خلا شعوري بالسعادة لوقفي كل ما أنا مدين به لأمتي وبلادي على قضية أمتي وبلادي، فقليلة جداً هي الأمور التي تجلب إلى نفسي شعوراً بالسعادة كالشعور الذي تولاّني حين نجحت الحملة التي قمت بها لإنقاذ «مي» من ذلها بين مخالب الغول!
لم يكن قد مضى وقت طويل على اجتياز الحزب السوري القومي محنة من أعظم محنه في الصراع السياسي. وخضم السياسة لا تهدأ أمواجه يوماً حتى تتعالى وتتلاطم أياماً، والمشاكل السياسية والإدارية آخذة بعضها برقاب بعض، ولا فرصة لتنفس الصعداء. وسط هذه الحالة الشديدة الاضطراب بلغني في أية حالة توجد الأديبة السورية الكبيرة ماري زيادة!
كان ذلك في أواسط يناير/كانون الثاني 1938. بين 15 و18 من الشهر المذكور. والأرجح في السابع عشر، أحد الشبان المثقفين السيد أنيس ناصيف الذي أعرفه، وعائلته من الشوير مسقط رأسي، يسعى ويتصل بي ويسأل وقتاً ليطلعني على أمر هام. وكنت في ذلك الوقت كثير التنقل لشدة ما يتطلّبه الموقف من السهر ومركز الحزب يغص بالناس. فلم استصوب أن أضرب للسيد ناصيف موعداً في إدارة الحزب. ولمّا كنت مدعواً إلى الغداء مع الأمين فخري معلوف وعائلته في رأس بيروت، وكان منزل السيد ناصيف على بعد عدة أمتار من منزل الأمين معلوف، قلت للسيد المذكور أن ينتظرني في منزله بعد الغداء فاجتمع به هناك. فلما فرغت من واجب الأكل دعوت الأمين فخري معلوف لمرافقتي إلى منزل السيد ناصيف وتوجهت رأساً إليه. فلما استقر بنا المقام روى لي السيد أنيس ناصيف رواية لو لم تكن متعلقة بأديبة مشهورة كالآنسة ماري زيادة ومتصلة بأمكنة معروفة كالعصفورية ومستشفى ربيز لوجدتها أقرب إلى المصنفات الخيالية منها إلى الحقيقة الفعلية.
كانت خلاصة ما رواه لي السيد أنيس ناصيف، بحضور بعض أفراد عائلته والأمين فخري معلوف، أنّ إحدى الممرضات في مستشفى ربيز واسمها أستير داود، وهي من معارف عائلة السيد ناصيف، أسرّت إليه أنها منذ مدة غير يسيرة تقوم، في المستشفى المذكور، على العناية بــ«مي» الأديبة المشهورة المودعة ذلك المستشفى بحجة الجنون، وأنها في كل مدة عنايتها بها لم تجد هذه السيدة الكبيرة في حالة من حالات الجنون. فهي محجوز عليها في حجرة، وحالتها شر حالة من طول الحبس عليها. فاهتم السيد ناصيف للأمر. وبطريقة ما عرف بزيارة الأديب المتوفى حديثاً، أمين الريحاني، للكاتبة «مي» وباهتمامه لأمرها. واتصل أمين الريحاني بنسيبها، الدكتور زيادة، وخابره في صدد إخراج «مي» من المستشفى واستئجار منزل لها تسكنه وتستعيد حريتها، فتظاهر الدكتور زياده بعدم الممانعة فسعى السيد ناصيف وغيره لاستئجار منزل وأخبروا الدكتور زياده أنهم وجدوا واحداً موافقاً ولم يبقَ غير معاملة الاستئجار ودفع المال. فقدم الدكتور زياده سنداً بمبلغ معين وكلّف أمين الريحاني نقله إلى الآنسة ماري لتوقيعه. فرفضت وقالت إنّ نسيبها لم يكن أميناً لها وإنها تريد أن تحاسبه على ما تصرّف به من مالها الخاص. فرجع الريحاني بالسند وطلب إلى الدكتور زياده أن يقوم هو بتسوية مسألة استئجار البيت لنسيبته لتخرج من المستشفى. فأجابه، أنه لا يقدر أن يتحمل هذه المسؤولية وأنّ «مي» مريضة ومصابة بالجنون، وأنه بحسب شهادة الأطباء لا يقدر على إخراجها وإطلاق سبيل حريتها، وأنّ هذا الأمر يعارض به قنصل دولة مصر، إذ الأديبة مصرية الهوية. فذهب الريحاني تواً وخابر قنصل مصر فأظهر هذا عدم اعتراض. فعاد وذهب مع الدكتور زياده إليه لتأكيد الأمر فدخل الدكتور زياده أولاً على القنصل وحده. وبعد فترة دعي الريحاني وأخبره القنصل أنه يعارض في استعادة «مي» حريتها وأنه يطلب إبقاءها محجوراً عليها، في المستشفى. لأنها لا تقدر على تدبير شؤونها بنفسها!
هذه هي خلاصة وجه المسألة الفعلي وإلى هذا الحد كانت بلغت المساعي. ثم انتقل المحدّث إلى ناحية أخرى فأدلى إليَّ بأن المحادثات مع «مي» كشفت عن حوادث سرية غاية في الأهمية، فبعد وفاة أبي «مي» في مصر، أخذ يتردد عليها بعض أقاربها الرقيقي الحال ويطلبون معونتها المالية، حتى إنهم طمعوا فيها وأزعجوها جداً، وهي وحيدة وفي حاجة إلى التعزية والراحة. والظاهر أنّ ما ورثته «مي» وما كان معها ولها من مقتنيات أطمعت فيها أنسباءها في الوطن ومن جملتهم الدكتور زياده (وقد نسيت اسمه الأول). فهذا اتفق سراً مع أحد الرهبان الجزويت أو الموارنة وأرسله إلى مصر ليتقرب من الأديبة ويهتم لأمرها ويقنعها بالاعتماد على نسيبها الطبيب. فنجحت الخطة. وبعد قليل من الوقت أرسلت «مي»، لشدة تضايقها، تستدعي نسيبها الطبيب إليها لينقذها من حالتها، فأسرع هذا لوقته إلى مصر، وهناك طلب من نسيبته، ليريحها من عناء الشؤون اليومية، أن تعطيه وكالة بمالها المودع في مصرف وأملاكها ومقتنياتها وهو يقوم بما يجب ويعود بها إلى سورية، إلى لبنان الجميل، المحيــي الذي يؤكد لها انتعاشها فيه واستعادة نشاطها،. فقبلت وكانت تثق بنسيبها ولا ترتاب بمقاصده فأعطته وكالة. وللحال دبّر الأمور وهيأ سفرها. وفي هذه الأثناء وهب مكتبتها أو جزءاً منها إلى الآباء الجزويت واستولى على حليها المودعة في المصرف. وجاء بها إلى بيروت فأسكنها في منزله مدة وصار كل يوم يحدثها عن سوء صحتها وانتهاك قواها وحاجتها إلى المقويات. وأقنعها أنها تحتاج لبعض الحقن تحت الجلد وصار يعطيها الحقن المذكورة، مع أنها ما كانت تشعر بالانحطاط الذي يصوره لها نسيبها. ثم عمد إلى خطة أخرى، فصار يستدعي أطباء من أصدقائه لرؤيتها، ويتحدث معهم عن حالتها ووجوب الاهتمام بها. وفي الأخير استقدم مدير مصح العصفورية الذي كان حديثاً في المصح وكان يرى أنّ المصح يصلح أيضاً لكل من أعصابه مضناة واتفق معه على نقلها إلى العصفورية. وما هو إلا كمرور الخاطر حتى كانت «مي» في العصفورية مع المجنونات. وشيئاً فشيئاً صار الرأي العام أو الذين اتصل بهم الخبر يقتنعون أنّ «مي» مجنونة، حتى أنّ بعض الأدباء والأديبات صاروا يذهبون في الفرص إلى العصفورية ليشاهدوا «مي» ويتأملوا جنونها!
بعد نحو تسعة أشهر في العصفورية ــــ نعم تسعة أشهر تقريباً ــــ نقلها نسيبها إلى مستشفى ربيز للعلل الجراحية! وهناك أيضاً بقيت نحو ستة أشهر حيث هي موجودة!
هذه خلاصة الرواية التي رواها السيد أنيس ناصيف أعيدها باختصار كثير وكما لا تزال عالقة بالذهن. فما كاد يكملها حتى شعرت بثورة غضب شديدة جداً تسيطر على كل فكر وكل شعور فيَّ. فصحت «إنّ هذه مسألة لا يمكن أخذها بهذه البرودة. فهل بلغ القحط في الشهامة والمروءة إلى هذا الحد؟» فسألني السيد ناصيف إذا كنت أرغب في زيارة «مي». فقلت بكل تأكيد. فقال إنه سيزورها ويخبرها ويتفق معها على موعد للزيارة وأكد لي مبلغ يأس «مي» من الناس، حتى أنها امتنعت عن مقابلة أي زائر أديباً كان أو من غير دائرة الأدب، ومن جملة الذين رفضت استقبالهم الأديب المعروف ميخائيل نعيمة. وعلى هذا الاتفاق غادرت والأمين معلوف منزل السيد ناصيف والغضب يغلي في نفسي غلياناً لا حد له.
في مساء ذلك اليوم كنت مدعواً للعشاء عند صديقي وصديق الحركة السورية القومية السيد الأمير أمين مصطفى أرسلان، الرجل الكبير النبيل المناقب، الذي كان من رجال السياسة في العهد التركي وأحد أعضاء مجلس إدارة لبنان المشهور الذين قبضت عليهم فرنسة سنة 1920 ونفتهم إلى كورسيكا وباريس. فأطلعته على ما بلغني من خبر «مي» وقلت له إني سأزورها في أول موعد، وأبديت اهتمامي الشديد لأمرها وقضيّتها الغريبة. فنصحني الأمير أمين بعدم التدخل في مسألتها خشية الخيبة. وأخبرني أنه يعرف عن الدكتور زياده وأنّ هذا أو أخاً له كان مرشحاً لرئاسة «الجمهورية اللبنانية»، وله علاقات قوية مع مقامات الإكليروس الماروني والجزويتي ومع الفرنسيين. وارتأى السيد الأمير أمين أرسلان أنّ هذا الرجل لم يقدم على هذا العمل، إذا كان صحيحاً، إلا وهو واثق من شبكة اتصالاته، وأنّ تدخلي في هذه المسألة يؤدي إلى اصطدام سياسي عنيف يرجّح أنه يضر مصلحة الحزب السوري القومي. فأجبته أنني سأهتم بالمسألة فإذا اقتنعت، بعد زيارتي لــ«مي»، بوجود الظلم فلست بمتردّد في فعل كل ما أقدر عليه لإنقاذ هذه الأديبة المواطنة. فأوصاني الرجل النبيل النفس بالحذر والاحتياط.
في صباح اليوم التالي، تلقيت جواباً من السيد ناصيف برغبة «مي». فتركت مكتبي في إدارة الحزب وتوجهت مع السيد ناصيف إلى مستشفى ربيز.
صعدنا إلى الدور العلوي واجتزنا بعض الممرات، ثم أشار السيد ناصيف إلى باب وفتحه. فدخلت فإذا غرفة ذات نافذة واحدة وفي وسطها سرير ألقيت عليه نظري فوجدت امرأة ملتحفة ممدَّدة وقد برز رأسها على وسادة. الشيب قد اشتعل في شعرها وهي صامتة تنظر بعينين سوداوين نظراً غير قوي. وجهها الأسمر البشرة شاحب والكآبة قد ألقت عليه قناعها. وقد ظهر لي أنّ السيّدة تحاول السيطرة على شعور يجيش في صدرها. فقد تململت قليلاً وأتت بحركة كمن تصارع قوة خفية.
جرى تعارفنا في غاية البساطة بواسطة السيد أنيس ناصيف الذي انتقل، بعد أن أعاد على مسمعي شيئاً من حالة «مي» إلى إعطاء الآنسة ماري زياده صورة عني. فذكر لها في ما ذكر أني أقود حزباً سيآسية ينضم إليه ألوف الشبان بينهم نخبة من المثقفين ثقافة عالية من طلبة وخريجين ومعلمين وأصحاب مهن حرة. فأبدت «مي» تذمرها من السياسة بكلام قد غاب الآن بين طيّات الحوادث التي تعاقبت على ذهني منذ ذاك التاريخ. فاستدركت ما أشار إليه السيد ناصيف وقلت لــ«مي» إنّ مهمتي الأولى وعملي الأساسي هما فوق السياسة، فالذي أقوم به هو توليد نهضة الأمة السورية، وشق طريق الحياة لها ووضع القواعد الاجتماعية ــــ الاقتصادية» لإيجاد حياة أفضل للمجتمع السوري. والسياسة في الحزب السوري القومي ليست سوى عمل تكنيكي مسخّر لأغراض القومية. وهذا يختلف كل الاختلاف عن أعمال الأحزاب السياسية المعتادة كالتي قد تكون خبرت بعض أعمالها ومظاهرها في أحزاب مصر وسورية ورجالها. فشعرت، بعد إيضاحي، أنّ الاستئناس أخذ يحلّ في نفس «مي» محل النفرة الأولى من السياسة ومواضيعها. فأجابت بكلام يدل على استعداد نفسي كبير لإدراك النظرات العالية ومجاراة التفكير العلمي والفلسفي. فهي أديبة ذات ثقافة صحيحة ومقدرة تفكير لم أجدها في أحد من الأدباء، السابقين النهضة القومية، الذين عرفتهم. ولا أستثني أمين الريحاني وميخائيل نعيمة اللذين سبق لي معرفتهما. ولا أتردد في القول إنّ استعداد «مي» النفسي ودرجة ثقافتها كانا أقوى وأرسخ من إنتاجها الأدبي المعروف، أو على الأقل مما قرأت لها منه. ولكن كان ينقصها الحافز الموضوعي من عمل عظيم أو حدث تاريخي خطير أو فكرة فلسفية سامية. ولم يكن في أي من المواضيع التي طرقتها «مي» من قبل ما أبرز لنا كل مكنونات نفس هذه الأديبة الكبيرة.
كنا لا نزال في بدء هذا الحديث الممتع حين طرق الباب وفتح، وإذا بالسيدة أم السيد أنيس ناصيف والآنسة أخته تدخلان الغرفة. وقد جاءتا تدفعهما الغيرة على «مي» وحب الاهتمام بها. وقد باغتتني هذه الزيارة لأني لم أتوقع أن تختلط زيارتي التي كان لها غرض خاص بزيارات كان يمكن أن تحدث بعد فترة أو في وقت آخر. دخلت السيدتان بلهفة والأم المتأثرة تقول: «نهارك سعيد، يا حبيبتي، كيف حالك؟ ليس لنا صبر عنك» وكان صوت السيدة متهدجاً. فانقطع الحديث بيني وبين «مي» وانتاب الأديبة انفعال نفسي شديد. فأجشهت بالبكاء. فشعرت أنّ زيارتي قد انتهت قبل أن أصل إلى كل ما كنت أبغي الوقوف عليه، خصوصاً ما يتعلق بتفاصيل وضعيتها. فنهضت وخطوت نحو الباب وانتظرت إلى أن هدأ روع هذه الكاتبة السيئة الحظ. فلما مسحت دموعها والتفتت إليّ قلت لها: إني أذهب الآن ولكني أطلب منها أن تتشدد وتثق فلا بدّ من تغيير الحال سريعاً. فقالت: «لم أعد أصدق أنّ ذلك ممكن». فأجبتها: «إنّ ما قلته ليس عبارات تشجيع مؤقت. وإني لا أريد أن أجعل الكلام يسبق الأفعال». وأكدت لها أنها يمكنها أن تعتمد عليَّ وودّعتها وخرجت وعبارة يأس «مي» ترن في أذني. ولكن فكرة إنقاذ «مي» كانت قد صارت عزيمة فيَّ.
عدت، في الطريق، إلى الحديث مع السيد ناصيف فسألته هل من جديد. فقال إنّ أمين الريحاني سيسعى في توجيه كتاب إلى قنصل مصر ليرى ما يكون جوابه وإنه استشار لذلك أحد المحامين. فكررت له ما قلته سابقاً وهو أني لا أجد قنصلية مصر مرجعاً لهذا الأمر، وقلت له صراحة إني أعتقد أن هذا السعي هو إضاعة وقت يربحه الخصوم. وأفهمته أني سأهتم بنفسي بوضع قضية «مي» حيث يجب وطلبت منه أن يؤكد لــ«مي» أنها ستنال حريتها.
وصلت إلى مكتبي في إدارة الحزب السوري القومي في شارع المعرض في بيروت. وقبل أن أنظر في أي أمر آخر أخذت ورقاً وكتبت مقالاً وأرسلته إلى إدارة جريدة «النهضة» التي كان الحزب يصدرها في بيروت وشرحت عليه أن يوضع في الصفحة الأولى من أول عدد. فصدر المقال في الصفحة الأولى من العدد الصادر في 19 يناير/كانون الثاني 1938. وقد جعلت عنوانه وفروعه هكذا: «قضية الأديبة الكبيرة «مي». إلى النيابة العامة والمفوضية العليا. حادث طريف خطير». فما كاد يوزع عدد الجريدة حتى صارت قضية «مي» على كل شفة ولسان، في بيروت وجبل لبنان ودمشق وحمص وحماه وحلب والإسكندرونة وحيفا ويافا والقدس والناصرة وعمّان وما بينها، وكان وقع المقال في النفوس شديداً وقد رميت، في تبويبه وإنشائه، إلى أربعة أغراض هي:
1 ــــ إطلاع الرأي العام على خطورة قضية الأديبة «مي» وما وراءها من ذيول خفية.
2 ــــ وضع ناحيتها الحقوقية على الوجه الصحيح، أي بجعل القضية تحت نظر النيابة العامة المركزية «للجمهورية اللبنانية» وإيقاف قنصل مصر عن تدخله في هذا الأمر الذي تجري حوادثه في أرض سورية وليس في أرض مصرية.
3 ــــ لفت نظر المفوضية الفرنسية، التي كانت تنتحل تمثيل سورية في الحقوق الإنترناسيونية، إلى ما يعنيها من تدخّل قنصل مصر في حجز حرية الآنسة ماري زياده الساكنة في سورية.
4 ــــ جعل المفوضية الفرنسية والنيابة العامة للقضاء اللبناني مسؤولتين عن الظلم الواقع على الآنسة ماري زياده.
وقد تحققت هذه الأغراض كلها. وانهالت الأسئلة من كل حدب وصوب على إدارة «النهضة» للسؤال عن صحة الخبر وعن سير المسألة. فلم يهدأ التلفون طول ذلك النهار وطول اليوم التالي.
ولا يسل القارىء عن شدة اهتمام أوساط الحزب السوري القومي بقضية «مي». فعقد الطلبة اجتماعات اختيارية للتذاكر في مسألتها. وقوميون آخرون عقدوا مثل هذه الاجتماعات، وعائلات قومية كثيرة تنادت للسهر وتبادل الآراء في هذه القضية الخطيرة. ومن جميع هذه الاجتماعات القومية لم يكن اجتماع أشد روعة من اجتماع الرفيقات السوريةت القوميات في منزل الرفيقة المأسوف عليها السيدة حرية أرسلان قرينة السيد الأمير أمين أرسلان. فقد تذاكرت السيدات القوميات في أمر «مي» وأرسلن إلى مركز الحزب اقتراحاً بتشكيل مظاهرة كبيرة يشترك فيها القوميات والقوميون وأظهرن استعدادهن للسير في طليعة المظاهرة. وورد مثل هذا الاقتراح من بعض أوساط القوميين. والحقيقة أنّ أوساط الحزب السوري القومي في بيروت مرّت في ذلك اليوم والذي تلاه في طور غليان شعور. وانتقلت عدوى هذا الشعور إلى غيرها من أوساط المدينة.
استبقيت فكرة المظاهرة التي عرضها القوميون ولم أبتّ فيها لأني أردت أن أعلم نوع رد الفعل في الدوائر الرسمية والجهة المعاكسة قبل اتخاذ أية خطوة أخرى. وكنت كلّفت السيد أنيس ناصيف أن يتصل بي تلفونياً كل يوم، وكلما حدث أمر جديد في تطور المسألة. في اليوم التالي لظهور المقال تلفن إليَّ السيد ناصيف وأخبرني أنه لم يحدث شيء جديد من ناحية الدكتور زياده أو من ناحية قنصل مصر، وأنّ المسألة لا تزال باقية عند الحد الذي كانت بلغته. فطلبت السيد ناصيف للقدوم إليَّ ففعل فاصطحبته وتوجهت إلى دار القضاء ودخلت على قاضي التحقيق الأول المركزي، الأستاذ حسن قبلان، الذي كان قد حقق في قضية الحزب السوري القومي في الاعتقالات الثانية سنة 1936، وحقق معي مدة نحو أربعة أشهر ونصف تولدت بيني وبينه في أثنائها صداقة ومودة أحللتهما من نفسي محلاً كبيراً نظراً لثقافة القاضي ونزاهته وقوة وجدانه. فأخبرته أني قادم للاهتمام بأمر الآنسة ماري زياده وكشفت له شيئاً عن ناحية هذه القضية الخفية. فاستصوب عرضها على النيابة العامة. وبما أنّ النائب العام لم يكن في تلك الساعة في مركزه، استحسن صديقي القاضي عرض المسألة على النيابة العامة الاستئنافية. ومع أني لم أكن أحسن الظن بالنائب العام الاستئنافي الأستاذ ألفرد ثابت، نظراً لموقفه الشاذ معي وأنا قيد التحقيق الثالث سنة 1937 ومحاولته استغلال وجودي في السجن ليلجأ إلى الوعيد، بينما حكومته تفاوضني على هدنة وأنا في السجن، فإني رأيت أن أتخطى هذه الصعوبة. فشكرت لصديقي الأستاذ قبلان اهتمامه وذهبت، يرافقني السيد ناصيف، إلى غرفة النائب العام الاستئنافي. فاستقبلني الأستاذ ثابت بترحاب. فعرضت عليه القضية وأنكرت له تدخل قنصل مصر في قضية «مي». فأجاب أنّ هذا وجه قوي ولكنه يرى وجوب إبلاغ النيابة العامة المركزية بصورة رسمية. فودعته وخرجت وقد تأكد لي أنّ دوائر القضاء تخشى كثيراً شر القضايا السياسية المحتجبة وراء قضية «مي». فقلت للسيد ناصيف إنه إذا كان لا يوجد أحد من أقرباء الآنسة ماري زياده يكون مستعداً لتقديم طلب إلى النيابة العامة، فسأضطر لتدبير هذا الأمر بنفسي. وأشرت عليه بطلب مقابلة النائب العام المركزي، الأستاذ وجيه الخوري، وحده في اليوم الثاني. وأخبرته أني سأوصل سعيــي إلى مراجع عليا. ذلك أني عوّلت على اغتنام فرصة الهدنة بين الحزب السوري القومي والمفوضية الفرنسية لطلب تدخلها في هذه المسألة، خصوصاً والأمر يعنيها من الوجهة الإنترناسيونية نظراً لتدخل قنصل مصر فيها. وبعد بلوغي مكتبي في مركز الحزب، طلبت الاتصال تلفونياً برئيس الغرفة السياسية في المفوضية، السيد كيفر، الذي جرت لي معه عدة مقابلات لبحث القضية القومية وإمكان إيجاد حل سياسي لها. فتم الاتصال في الحال، فطلبت مقابلة السيد كيفر، لأمر هام مستعجل فقبل طلبي فراً وبعد نحو ربع ساعة كنت في الغرفة السياسية في المفوضية. فأطلعت السيد كيفر على قضية «مي» ومبلغ خطورتها وتدخّل قنصل مصر مباشرة فيها وأكدت له عظيم اهتمامي لهذه القضية ومبلغ امتناني لإنهائها برفع الظلم عن هذه الأديبة الكبيرة. فأخذ السيد كيفر قلماً وورقة ودوّن أمامي أهم المعلومات والملاحظات، وأكد لي أنه سيخابر من يلزم للاهتمام بهذه المسألة. فودعته شاكراً وعدت إلى مكتبي لمتابعة أعمالي.
في عصر اليوم التالي خابرني السيد ناصيف وأطلعني على نتيجة مقابلته للمدعي العام المركزي، الأستاذ وجيه الخوري. فإن النائب العام اهتم ووعد بتقصي المسألة بنفسه. وفي اليوم الذي بعده علمت من السيد ناصيف أنّ النائب العام زار الآنسة ماري زياده في مستشفى ربيز، وأنه خرج من غرفتها والدموع تهطل من عينيه من شدة تأثره لحالها. وإنه توجه بعد مقابلتها إلى منزل نسيبها الدكتور زياده. وبعد خروجه من عنده كانت نظرته الأولى قد تعدلت وأخبر المهتمين أنّ الأمر فيه مسؤولية إذ توجد لدى الدكتور زياده شهادات أطباء باختلال «مي» وعدم إمكانها التصرف بحرية. وزاد السيد ناصيف أنّ الدكتور زياده داهية، وأنه لا يمكن التغلب عليه بسهولة. وكان قد بلغني خبر قدوم أخيه من حلب. وهو قاضٍ أو محامٍ على ما أظن أنه جرى تعريفه لي. عند هذا الحد نفد صبري وقلت للسيد ناصيف أن يعدّوا المنزل الذي ستقيم فيه «مي» لأني سأخرجها بالقوة. فرجا السيد ناصيف إعطاءه مهلة إلى الغد ليعيد الكرّة على النائب العام إذ استشعر منه صدق شعور في المسألة. فقلت له إني لا أصبر أكثر من 48 ساعة أخرى لتعطي المساعي القانونية نتيجة حاسمة لئلا يربح الأعداء الوقت ويأتي عملي متأخراً. وعدت فكررت اهتمامي بواسطة الأقنية الممتدة بين القضاء والمفوضية. واشتد اهتمام الأوساط القومية، خصوصاً المحامين القوميين الذين أوعزت إليهم بوجوب السعي والمراجعة، وبينهم الأمين الأستاذ عبد الله قبرصي الذي زار النائب العام وقضاة التحقيق وأثار القضية عندهم.
لم يمضِ على هذه المساعي 48 ساعة حتى كانت النيابة العامة وضعت مطالعتها. وظهر تدخل المفوضية الفرنسية أيضاً إذ تعيّنت لجنة أطباء لإعطاء تقرير في أمر «مي» بينهم الطبيب الفرنسي المعروف الجنرال «مرتان» الذي ما كان تدخّل لولا إشارة رضى من فوق. ومع ذلك فإن المسألة لم تنتهِ بسهولة، فقد جرت مشادة ومزاحمة شديدة، وحاول الدكتور زياده التأثير على الجنرال «مرتان». ويقال إنّ مقامات إكليريكية وغير إكليريكية تدخلت في الخفاء. وأخيراً جاء التقرير بصورة خفيفة جداً على الدكتور زياده ولكنه يقول بعدم ضرورة بقاء «مي» تحت الحجر. وعلى الرغم من هذا التقرير، لم يسلّم الدكتور زياده وزمرته، فنشروا أشياء مخالفة للحقيقة في صحف بيروت. فعادت جريدة «النهضة» إلى معالجة هذه القضية الخطيرة ومحاربة التضليل.
كانت المشادة عنيفة جداً. ولكن الحملة القومية كانت قوية ومنظمة. فعلا صوت الحق وخفت صوت الباطل. وبعد أيام قليلة صدر القرار باستعادة «مي» حريتها. وكان إخراجها باحتياطات ظهر أنها كانت في محلها. ولما بلغني الخبر أنّ «مي» قد أصبحت في منزلها شعرت كأن حجراً كبيراً زحزح عن صدري.
كان انتصار الحملة القومية على ظلم «مي» تاماً. ولكن خصوم حرية «مي» لم يقطعوا الأمل من تحويل الانتصار إلى انكسار. فلم تمضِ بضعة أيام حتى طلب السيد أنيس ناصيف الاتصال بي ليخبرني أنّ الآنسة ماري زياده ليست أمينة في منزلها، وأنّ أشخاصاً يأتون ويطلبون الدخول عليها بدعوى أنهم من أقربائها فتمنعهم الممرضة الآنسة أستير داود، التي أخذت تقوم بمرافقة «مي» والعناية بها. ولكن تكرار تردد الأشخاص دعا إلى الريبة. فشكرتُ للسيد ناصيف معلوماته. وفي الحال استدعيت المنفذ العام لمنطقة بيروت وقائد فرق المتطوعين فيها وكلّفت كلاً منهما باتخاذ التدابير اللازمة لحماية منزل الآنسة ماري زياده في رأس بيروت تحت إشراف الأول منهما. وفي ذاك اليوم عينه وضعت مفرزة صغيرة من الميليشيا الحزبية بقرب منزل «مي» وأخذ أفرادها يتناوبون الحراسة عليه.
وكانت، في هذه الأثناء، قد تحركت عناصر في الأوساط الأدبية للاهتمام بالأديبة الكبيرة، وفي مقدمتها عناصر الجامعة الأميركةنية وخصوصاً أولئك المعادين للحركة السورية القومية الذين يسمّون أنفسهم «عروبيين» من أساتذة الجامعة وطلبتها. وكان من وراء ذلك دعوة جمعية «العروة الوثقى» في الجامعة الأميركةنية الأديبة «مي» لإلقاء محاضرة في الجامعة. فلبّت «مي» الدعوة وتعيّن موعد المحاضرة يوم 29 مارس/آذار من تلك السنة. وكان خصوم «مي» يبذلون جهدهم لإحباط المحاضرة. ومن التقارير التي وردتني من منفذية بيروت تبيّن أنه جرت محاولات للدخول إلى منزل «مي» بالعنف ولكنها حبطت بتدخل الحرس القومي. فشددت التعليمات باليقظة. وفي الوقت المعيّن للمحاضرة ركبت «مي» السيارة ومعها مرافق أو اثنان وركب في السيارة اثنان من الحرس القومي مسلحان بمسدسات وسارت سيارة أخرى من الحرس وراء سيارة «مي» حتى مدخل وست هول في الجامعة الأميركةنية. وذهبت بنفسي وكنت بين الذين حضروا محاضرتها الجميلة في ذلك المساء. ودخلت إلى غرفة استراحتها، بعد المحاضرة، وسط تهلّل القوميين وازورار اللاقوميين فهنأتها. وكانت إلى جانبها كريمة السيد عطا الأيوبي (بك) ويحيط بها عددٌ من الأساتذة بينهم صديقي الدكتور شارل مالك أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركةنية. ولم أطل المكوث فودعت وخرجت.
في اليوم التالي وجدت على مكتبي في مركز الحزب تقريراً من منفذ بيروت العام فيه تفصيل تدخّل الحرس القومي لرد آخر محاولة اعتداء جرت في اليوم السابق قبيل خروج «مي» لركوب سيارتها. وإنّ هذه المحاولة كادت تلجىء إلى إشهار السلاح!
بعد إبراز «مي» إلى الرأي العام في محاضرتها عدَدْتُ مهمة الحزب قد تمت بنجاح كبير. فأرسلت التعليمات بسحب قوة الحراسة مع التهنئة إلى المنفذ العام والمفرزة.
ومع ذلك لم تنتهِ قضية «مي» تماماً. فإن خصوم حريتها تابعوا مساعيهم في مصر وتمكنوا من تأليف «مجلس حسبي» يحكم بوجوب الحجر على «مي». وفي عداد هذا المجلس السيد خليل ثابت (بك) القائم على «الأهرام» وبلّغ قنصل مصر الحكومة اللبنانية قرار المجلس. فتقدم الأمين عبد الله قبرصي، المحامي، لتبيان فساد هذه المحاولة شكلاً وأساساً من الوجهة الحقوقية ونشر في جريدة «النهضة» عدة مقالات حقوقية. فخابت آمال الخصوم وحبطت آخر مساعيهم وبقيت «مي» حرة وسافرت إلى مصر حرة.
لم أرَ «مي» بعد زيارتي الأولى لها في مستشفى ربيز إلا في الجامعة الأميركةنية، بعد محاضرتها، ولكن بلغني أنّ الذين أخذوا يلتفون حولها تعمدوا تصوير سير قضيتها على غير حقيقته ووضع موقفي والحزب السوري القومي تحت الاشتباه. ومن التقارير التي وردتني ما يؤكد أنّ أشخاصاً تكلموا عند «مي» وادّعوا أنّ جريدة «النهضة» كانت معاكسة أو غير مهتمة لقضيتها!
هو مرض الانحطاط المناقبي المتفشّي حتى في أعلى الطبقات الأدبية والعلمية اللاقومية. الحسد وحب الظهور والبهت. لم أحفل بشيء من ذلك، بل احتقرت هذه الدسائس الصغيرة، التي ظهرت في أشكال متعددة. حتى لقد نقل إليَّ أنّ بعض الحسَّاد قال إنه يود أن لا تنقذ «مي» أبداً إذا كان لا ينقذها غير الحزب السوري القومي!
لا غرابة في هذا القول، فإن هذا النوع من «الأعداء» يود أن لا تُنقذ سورية بأسرها وأن تظل مستعبدة على أن ينقذها الحزب السوري القومي!
وقد حاول «العروبيون» في الجامعة الأميركية نية استغلال «مي» ضد النهضة السورية القومية. فاقترحوا عليها عدة موضيع كــ«رسالة الأديب العربي» أو «الأدب العربي» ولكن الأديبة جعلت موضوع محاضرتها «رسالة الأديب إلى الحياة العربية» وجاء تطور حديثها خلافاً لما كان يتوقعه أولئك المهوسون. فــ«مي» لم تكن أديبة خلط.
ثم اتفق أن حادثني الدكتور شارل مالك في أمر القيام بزيارة لــ«مي» فقبلت وزرتها برفقته ورفقة الأمين فخري معلوف. فكان استقبالها لي عادياً ليس فيه شيء من دلائل الرابطة الوثيقة التي نشأت منذ زيارتي الأولى لها في المستشفى، وما عقبها من صراع عنيف في سبيل إنقاذها من مخالب الغول. وأرجّح أنّ الحديث الذي سمعته منها عن كيفية إدخالها العصفورية والتجارب القاسية التي تعرضت لها هناك كان في هذه الزيارة.
في هذه الزيارة الأخيرة لــ«مي» وقفت على نوع من الحياة الذي قدمه لها محيط الثقافة اللاقومية المبلبل. وقد ترك ذلك في نفسي أثراً واحداً: الأسف. فقد كثر حول هذه الأديبة المتألمة الذين يريدون أن يهتموا بها ويسلّوها ويجعلوا منزلها زاهياً. وكل واحد منهم كان يرى الوصول إلى هذه البغية على هواه. فكثرت السهرات ولعب الورق عندها والتحدث في أمور كثيرة. وكل ذلك كان ضجيجاً وصخباً مزبداً. وكنت أرى «مي» تحتاج إلى الراحة والهدوء، بعد الذي تحملته، وإلى شخص أو اثنين عميقي الفهم ساميــي الإدراك يعرفان أنّ السكوت في بعض الساعات من ذهب، وأنّ المطاوعة في الحالات النفسية التي تنتاب هذه المرأة الرقيقة الشعور أفضل من ابتكار المسليات المتعبة.
كان أسفي شديداً لحالة هذه المواطنة الكبيرة. ولم أعد أرى «مي» بعد تلك الزيارة، فقد كانت مسؤوليتي على رأس الحركة السورية القومية تتطلب كل دقيقة من دقائق قوتي.
بعد نحو شهرين على الزيارة المذكورة كنت على الطريق إلى دمشق فعمّان فحيفا فقبرص، حيث صرفت أياماً معدودة في راحة نسبية سافرت بعدها إلى أوروبة فاميركا الجنوبية، فلم أعد أقف على شيء من أخبار «مي» إلا أنها سافرت إلى القاهرة. وفي أواخر السنة الماضية اطّلعت على قصاصة جريدة سوريّة فيها نص قسم كتاب أرسلته «مي» منذ نحو سنتين إلى الآنسة ليلى نفّاع في منتويداو وفيه تقول: «وإني أبطأت في الكتابة إليك لأني في المدة السالفة انشغلت عن كل مراسلة في أمور ومشاكل من الصعوبة والأهمية بحيث لا تخطر على بال، وهل يخطر على بال أحد أنّ الحياة ممكنة بدون حرية شخصية؟ والحرية الشخصية هي التي هاجمني فيها وجرّدني منها أولئك الأقارب الذين رموني بالجنون بعد وفاة أبي وأمي ونشروا عني الإشاعات المتنوعة في الشرق والغرب طمعاً في المال وفي المتاع الفاني».
وفي أوائل هذه السنة، أطلعني أحد القوميين على قصاصة من صحيفة أخرى فيها خبر منقول عن عدد جريدة «صوت الأحرار» البيروتية الصادر في 18 أكتوبر/تشرين الأول من السنة الماضية خلاصته أنّ «مي» كلّفت أحد المحامين في بيروت بإتمام معاملة حصر إرث جدها في شحتول الذي ينتقل إليها منه القسم المختصّ بوالدها المتوفى وأنّ المحامي اصطدم بصعوبة هي رفض مختار قرية شحتول التصديق على المعاملة القانونية التي لا تتم إلا به. والسبب هو أنّ المختار لم يكن غير الخوري يوسف زياده ابن عم «مي» الذي كان قد وضع يده مع الورثة الآخرين على نصيب والد «مي» من أملاك جدها!
من هذا الخبر الأخير علمت أنّ المعركة حول حرية «مي» لم تنته إلا لتنشب معركة أخرى حول حقوق «مي».
إنّ الغول المفترس بنيه الذي تحدث عنه الدكتور خليل سعاده في محاضراته ومقالاته قد افترس «مي» كما افترس الدكتور خليل سعاده نفسه!
إنّ أيام «مي» الأخيرة كانت من أتعس الأيام التي ذاق مرارتها أشقى الأدباء السوريين الصحيحين إذا لم تكن أتعسها كلها!
وقد لا يكون في العالم كله أديبة قوية الشعور وراسخة الثقافة ذاقت من الاضطهاد والعذاب ما ذاقته «مي» في آخر أيامها من تنّين الحياة السافلة الذي أعدّت له الحركة السورية القومية سيفاً مرهف الحدّين يجد فيه آخر أيامه!”