لا أنفكّ أستشهد بقول لكونفوشيوس، الفيلسوف الصيني، عن الأغنية. قال: “ما همَّني من يضع قوانين الصين، ما دمت أكتب أغانيها”. أي إنّ هذا الحكيم المعجون بالأخلاق لفت، في موقفه هذا، إلى أهمية الأغنيَّة، شعرًا ولحنًا وأداء، في بناء مجتمع، أكثر مما تبنيه حتَّى القوانين.
وعليه، سأخصِّص لهذا الموضوع أربع حلقات، أشبعه، في كلّ منها، شرحًا وتفنيدًا وشواهد وأدلّة، علَّني، في غياب الدولة عن آخرها، أحفظ بعض جمال وجميل لمجتمع قوانينه أهم من أغانيه!!!
“… تغنِّي كأنَّها لا تغنِّي”. هذه هي الصُّورة الَّتي حفرها ابن الرُّومي في أذهاننا عن “وحيد” المغنِّية، إحدى أشهر مغنِّيات العرب، ومن خلالها عن أداء الغناء، بعامَّة، كأنَّ فيه سحرًا عصيًّا على السامع، فيتحوَّل لديه تحريك الشِّفاه، ضربًا من التَّأمُّل الوجدانيِّ وسكون الصَّلاة.
وكثر هم الَّذين قرأوا قصَّة الفيلسوف الفارابي في حضرة الخليفة العباسيِّ ومجلسه الخاصِّ من ندماء وجَوارٍ وقيانٍ وموسيقيِّين ومغنِّيات ومغنِّين وشعراء. طلب من الفيلسوف، الَّذي عني أيضًا بالموسيقى، أن يُسمعه مقطوعة على آلة القانون، فأجاد تأليفًا وعزفًا حتَّى بلغ التَّأثُّر بالحاضرين حدَّ البكاء. فتحدَّاه مَن في المجلس أن يعيد عزف المقطوعة نفسها، شرط أن يضحك الجميع، وهكذا كان. ثمَّ كان التَّحدِّي الأخير، بأن يجعلهم ينامون، فعزف، وتأبَّط قانونه وموهبته وغادر البلاط، ليقول إنَّ سحر الموسيقى لا يقاوَم، ومن يتقنها ويبرع فيها يملك العالم ويملك عليه.
إنَّه “ثالوث الكلمة والنَّغم والأداء” الَّذي قامت وتقوم عليه الأغنية، ويجب أن يتوافر لدى أيِّ مطرب أو مطربة أو مغنٍّ أو مغنِّية، ليدخل ملكوت النَّجاح والشُّهرة. وإذ فرض التَّطوُّر الإعلاميُّ والتَّسويقيُّ نفسه على الفنون، بخاصَّة عبر التِّلفزيون والسِّينما، أضيفت إلى هذا الثَّالوث أركان أخرى، لعل أهمَّها الحضور والصُّورة المحبَّبة، بما بات يعرف بـ “الكاريسما”.
فأيننا نحن اليوم، في لبنان والعالم، من هذه المقوِّمات، عندما نطلق نجمًا أو نصنعه؟ ومَن هم القيِّمون على هذه الصِّناعة؟ وإلامَ يرمون، وإلى أين سيصلون بالذَّائقة العامَّة؟ وما الهدف من برامج صناعة النُّجوم الَّتي تغطِّي شاشات لبنان والعالم، لتكون البرامج الأكثر استقطابًا للمشاهدين، والاهتمام؟… أسئلة أحاول الإجابة عنها.
الاسم: أم كلثوم إبراهيم. الشَّكل: مقبول يحتاج إلى جراحات تجميل كثيرة. الوزن: مائل إلى البدانة.
الاسم: وديع فرنسيس (الصافي). الشَّكل: لبناني تقليديٌّ يحتاج إلى زرع شعر. الوزن: بدين.
الاسم: نهاد حدَّاد (فيروز). الشَّكل: مقبول… ولكن. ملاحظات أخرى: متحفِّظة ومحافظة، وقليلة الحركة على المسرح وأمام الكاميرا.
هؤلاء الثَّلاثة، عمالقة الغناء في القرن العشرين، الَّذين سيطبعون قرونًا كثيرة مقبلة، بتراثهم الغنيِّ المتنوِّع، (وكثر غيرهم طبعًا)، لو وقفوا اليوم أمام أيِّ لجنة في برنامج من برامج “صناعة النُّجوم”، لأُبعدوا بلا شكٍّ عن المسابقة. فكلٌّ منهم ليس “ستار” (بالأجنبيَّة).
أمَّا أصواتهم… فمن يسأل عن الأصوات، ما دامت الصُّورة هي الأهمَّ؟
تصوَّروا لو أنَّ هؤلاء الثَّلاثة بدأوا حياتهم الفنِّيَّة في عصرنا هذا، أيَّ خسارة كنَّا سنمنى بها؟ وأيُّ فرح كان سيخطف من قلوبنا؟ وأيُّ عظمة كانت سيُدكُّ صرحها؟ وأيُّ جريمة كانت سترتكب في حقِّ الذَّوق والإبداع؟
لكنَّ هؤلاء الَّذين أصبحوا، بمفهوم اليوم، دُرجة (موضة) قديمة، كانوا حين انطلقوا، مخالفين السَّائد في عصرهم، ومجدِّدين منبوذين من القابضين على زمام الفنِّ والتَّسويق… كانوا علامات فارقة نقلوا الغناء من ضفَّة الرَّتابة والتَّأثير التُّركيِّ والنمطيَّة والطَّرب للطَّرب ليس إلَّا، إلى ضفَّة التَّنوُّع والانفتاح على الموسيقى بكلِّيَّتها، بما هي لغة عالميَّة، والتَّأثير في المجتمع حزنًا وفرحًا وقيادته إلى نضال أو جهاد أو ثورة، وتثقيفه شعرًا ونغمًا، وتحوَّل معهم الغناء رسالة هدفها التَّعبير عن الإنسان وقضاياه ومشاعره، وخدمة الإنسانيَّة… حتَّى عَدَّهم البعض مسيئين إلى الفن، إلى أن فرضوا أنفسهم بإبراز حقيقة رسالتهم السَّامية، وجعلها مثالًا، لما عانوه وكابدوه حتَّى أصبحوا رموزًا في أوطانهم والعالم، واحتلَّت أسماؤهم قائمة الخلود.
قد يكونون ولدوا شبه كاملين، حباهم الله مواهب استثنائيَّة. لكنَّهم، ليصبحوا ما أصبحوا، تتلمذوا على أساتذة في الغناء والتَّلحين، وتعلَّموا من أخطاء من سبقوهم، وثابروا متفانين في عملهم، وانفتحوا على التَّطوُّر، والتقطوا الحسَّ الشَّعبي يجسِّدونه في أغانيهم، حتَّى تماهوا مع النَّاس الَّذين صار هؤلاء الثَّلاثة (وغيرهم كثر من مقامهم) جزءًا من شخصيَّاتهم ويوميَّاتهم وهواياتهم.
واليوم، وبعد وفاة سيِّد درويش وأمِّ كلثوم ومحمَّد عبدالوهاب وعاصي ومنصور رحباني والياس رحباني ورياض السُّنباطي وفريد الأطرش وفايزة أحمد وبليغ حمدي ومحمَّد الموجي وعبدالحليم حافظ وكمال الطَّويل وحلمي بكر ونور الهدى وعبد الغني شعبان وحليم الرُّومي وفيلمون وهبي وعفيف رضوان ونصري شمس الدين وزكي ناصيف وسعاد محمَّد ووداد ووردة الجزائرية وصباح وسمير يزبك وعصام رجي وملحم بركات ومروان محفوظ وإيلي شويري ونجاح سلام وتراجع حضور هيام يونس، ما زالوا جميعًا حاضرين بقوَّة، كما لو أنَّهم الآن أمامنا على المسارح وعلى الشَّاشات. يكفي أن يعاد إصدار أعمالهم على أسطوانات، أو أن تعزف فرقة موسيقيَّة تراثيَّة أو حديثة أغنياتهم ومؤلَّفاتهم، أو أن يكرَّم أيٌّ منهم، حتَّى يمسحوا، في لحظة، نجاح أيٍّ من البارزين على السَّاح الفنِّيَّة اليوم، ويستعيدوا كلَّ مجدهم. وما لجوء مغنِّي اليوم إلى إعادة تأدية أعمال الكبار بأصواتهم (وليست كلُّ المحاولات ناجحة)، في جانب مهمٍّ منه، وبالتَّالي ارتكاز ملحِّنين جدد على جمل موسيقيَّة سبق لهؤلاء الكبار أن ألَّفوها، في أحيان كثيرة، إلَّا اعتراف بأنَّهم ما زالوا يغبُّون من النَّبع، وكذلك عجز عن تقديم أيٍّ جديد، لئلَّا نقول إفلاسًا. وللتَّذكير، فحسب، فإنَّ أكثر مطرب يبيع أسطوانات وكاسيتات في مصر، ليس عمرو دياب النَّاجح جدًّا في المقياس الرَّاهن، ولا هاني شاكر مثلًا… بل عبدالحليم حافظ الَّذي توفى العام 1977.
(الحلقة المقبلة عن وفرة المبدعين والتنافس الشريف بينهم)