بعدما تطرقت إلى الأسس التي قامت عليها الأغنية، وأتيت على ذكر كبار فيها، في لبنان والعالم العربي، أركز في هذه الحلقة على مسيرة الجيل الثَّاني من المبدعين والكبار، وهي كانت أسهل من مسيرة من سبقوهم.
ففي لبنان مثلًا، وضعت “عصبة الخمسة” (الأخوان رحباني وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وتوفيق سكَّر) اللَّبنة الأساسيَّة لمسار الفنِّ، غناء وتلحينًا ومسرحًا ومهرجانات، وجاراها في ذلك كبار آخرون من مثل حليم الرُّومي وفيلمون وهبي ووليد غلميَّة وروميو لحُّود وسامي الصِّيداوي وجورج تابت والياس رحباني وعفيف رضوان وعبدالغني شعبان وسليم الحلو وميشال خيَّاط وحسن غندور وحسن عبدالنبي وغيرهم… وكان للإذاعة اللُّبنانيَّة شأن عظيم في تجسيد هذه الصُّورة، ففسحت في المجال أمام مواهب هؤلاء، وخصَّصت من ثمَّ ركنًا للهواة الَّذين احتلُّوا لاحقًا مكانة مرموقة في عالم الغناء، من مثل مروان محفوظ ومحمَّد جمال وعصام رجِّي وملحم بركات وسمير يزبك وجوزيف عازار وإيلي شويري وغيرهم. وكان للمهرجانات دورها الأساس أيضًا في رفد الحركة الفنِّيَّة بالأصوات الجديدة والملحِّنين والكتَّاب والشُّعراء والممثِّلين والرَّاقصين. وكذلك، أسهم التِّلفزيون في إغناء الحال الفنِّيَّة، ومدَّها بالأوكسيجين اللَّازم، بخاصَّة مع برنامج “ستوديو الفن” الَّذي أعدَّه وأخرجه المخرج سيمون أسمر، منذ العام 1972.
ففي هذا البرنامج، تخرَّج، في دورات متتالية، مغنُّون ومغنِّيات، تسلَّموا الرَّاية من الرَّعيل الأوَّل، وأكملوا المسيرة، ومنهم ماجدة الرُّومي وغسَّان صليبا ووليد توفيق وعبدو ياغي وعبدالكريم الشَّعَّار ونهاد فتُّوح وراغب علامة ونوال الزُّغبي ووائل كفوري… إلخ، فما سمحوا بأن يحدث انقطاع بين الأجيال، وإن كان البعض من هؤلاء حاد أحيانًا عن درب الأصالة الفنِّيَّة الَّتي أرساها تراث الكبار السَّابقين والعلم.
كان هذا البرنامج، “ستوديو الفن”، محطَّة مهمَّة ليس في لبنان فحسب، بل وفي العالم العربيِّ. فراح كثر يقلِّدونه، محليًّا وعربيًّا، في شكل أو آخر، فخرج إلى الأضواء والشُّهرة مغنُّون ومغنِّيات من مثل نجوى كرم ومعين شريف (“ليالي لبنان” في تلفزيون لبنان)، وملحم زين (“كأس النجوم” على “أل. بي. سي.” أوَّلًا، ثمَّ في “سوبِّر ستار” على “المستقبل”) وديانا كارازون (“سوبِّر ستار” نفسه)، ولاحقًا جوزف عطية (ستار أكاديمي) ومحمد عساف (أراب أيدول). وأهميَّة هذه البرامج، ولا سيَّما منها “ستوديو الفن” أنَّها كانت أشبه بمدرسة تخرج طلَّابها بإشراف متخصصين في مجالات شتَّى. وإذا كانت الشُّروط الأولى للنَّجاح ارتكزت على ثالوث الصَّوت والأداء والحضور، بداية، فإنَّها راحت شيئًا فشيئًا تماشي حاجة السُّوق ومتطلِّبات برامج المنوَّعات الكثيرة، من مثل الشَّكل الحسن والإثارة على حساب الميزات الأخرى، وأحيانًا الكمِّيَّة على حساب النَّوعيَّة.
وفي هذا المجال، ثمَّة صحَّة لوجهة نظر سيمون أسمر الَّذي قال لي ذات مرَّة إنَّ المغنِّين النَّاجحين والجيِّدين، مهما كثر عددهم، لا يكفون لملء حلقات برنامج منوَّعات يستمرُّ مثلًا ستَّة أشهر. ويستدرك أنَّ الشَّاشة ملك لمختلف الأذواق وليست للنُّخبة فحسب، فضلًا عن أنَّ هذا النَّوع من البرامج الترفيهيَّة المنوَّعة يعرض في سهرات عطلة نهاية الأسبوع، بعد أسبوع عمل طويل، ولا بدَّ من أن تكون خفيفة ومسلِّية ولا تتطلَّب من المشاهد عناء للمتابعة. إنَّها فسحة له ومناسبة ليسهر في بيته مع أفراد عائلته أو أصدقائه، من دون همٍّ يذكر. هذا هو مفهوم البرامج التَّرفيهيَّة والمنوَّعات، في لبنان والعالم، أمَّا إذا شذَّ البعض عنه وتفَّهوه، فالذَّنب ليس على المفهوم أو على الفكرة أو على الوسيلة الإعلاميَّة، بمقدار ما هو على القيِّمين على هذا البرنامج أو على سياسة المحطَّة.
وبما أنَّ المحطَّات العالميَّة اليوم، أصبحت بدورها ضيفة على منازلنا، وفردًا من أسرتنا، بفعل كثرة الفضائيات وانتشار “الدِّشّ” وتطوُّر وسائل الاتِّصال والإعلام والبثِّ، يكفي أن نشاهد برامجها الفنِّيَّة والتَّرفيهيَّة والمنوَّعات، لنجد أنَّها طبق الأصل ممَّا يشكو البعض منه، مع فارق في الاحتراف والتِّقنيَّات وطبيعة الفنون ومستوى المغنِّين والعادات والتَّقاليد بين هذا الشَّعب وذاك. فالجوهر واحد، وإن اختلف الشَّكل بعض الشَّيء.
فمن المسؤول إذًا عن موجة الغناء السَّائدة اليوم، وتفريخ المغنِّين والمغنِّيات بوتيرة ما تنتجه مزرعة دجاج؟ وهل هذا صحِّيٌّ أو سليم أو مقبول؟ وأين الصَّحُّ من الخطأ في هذه الصُّورة؟ وهل بتنا مجبرين على أن نشاهد “نجم” الغد على مدار السَّاعة، على الشَّاشة، ونعيش معه كلَّ لحظة من حياته؟ وهل فرضُ “نجم” على النَّاس يكون بتصويت النَّاس له، الأميُّ منهم والمثقَّف على السَّواء، من دون اعتبار جنسيَّة هذا “المختار”، وعدد مواطني دولته مقارنة مع آخر أفضل منه، بالمعايير الأكَّاديميَّة، عدد سكَّان دولته أقلُّ من عدد سكَّان دولة “الفائز”؟ وهل الَّذين ينتقَون، وإن وفق مباريات وشروط صارمة، لهذا النَّوع من البرامج، هم الأفضل بين من تقدَّم ومن لم يتقدَّم، ليُفرَضوا علينا “نجومًا”؟
المسؤول ليس فردًا أو جماعة. إنَّه السُّوق. السُّوق بمفهومها الواسع، القائمة على الاستهلاك السَّريع. ولئلَّا نستطرد إلى مفاهيم اقتصاديَّة وماليَّة وتسويقيَّة وإعلانيَّة، نكتفي ببعض الأمثلة، إشارات هي يفهمها القارئ اللَّبيب… ونتابعها في حلقة رابعة أخيرة.