تشكّل مقدّمة هذه المجموعة القصصيّة سندًا مرجعيًّا للمتلقّي، إذ من خلالها يتمكّن من فهم بعض الأبعاد التي رمت إليها الكاتبة، سيّما أنّ الكِتابة هي باب للنّجاة، خصوصًا في فترة كورونا حيث كانت معظم الأماكن مغلقة والرّعب يحيق بكلّ شيء. كلمتان مفتاح تقودان مسار السّرد: “المقهى والنّافذة”، ما يدفعنا إلى التّساؤل: كيف سعت رزان المغربيّ أن تبني من المقهى عالمًا موازيًا لعالم الواقع؟ وإذا كان أبطال الكاتب الأميركيّ بول أوستر كتّابًا يقيمون النّظام داخل حياتهم عبر الكتابة ويحاولون إيجاد مكانهم داخل العالم الطّبيعيّ، فإنّ كاتبتنا تخلق أبطالًا يَحيَون حياة خاصّة بهم ويعيشون عالمًا تتداخل فيه أحيانًا الأزمنة والأمكنة والشّخصيّات، فيشعر المتلقّي أنّه مشدود إلى هذا العالم المدهش، حيث الشّخصيّات تشبه شخصيّات “ساراماغو”، لا اسم لها ولكن من السّهل أن نتخيّل ملامحها.
لعلّ هذا النّمط الجديد من الكتابة يحتاج إلى أدوات نقديّة جديدة حيث تتداخل العديد من الأحداث داخل القصّة الواحدة.
في القصّة الأولى البحث عن “بورتريه”: رجلان في منتصف العمر يبحثان عن امرأة يعتقدان أنّها موجودة في مقهى، إذ تقول الكاتبة: المقهى الخامس الذي يدخلانه وليست من روّاده: “لعلّ المرأة التي دخلت الآن قد تكون صديقة الكاتبة التي غادرت قبل لحظات”.
وكانت رحلة البحث المضنية عن الكاتبة، “فقد حجز الصّديقان في الفندق الذي يُتوقّع وجود الصّديقين فيه، لكنّ الكاتبة حجزت في مكان آخر بعد انتهاء المؤتمر”.
وتتوالى الأحداث إلى حين الوصول إلى المعرض حيث البورتريه ورواية من دون أرقام الهاتف. وكأنّ الشّظايا والفسيفساء تمثّل ذروة التّجريب في مسار السّرد، فتبدو القصّة عصيّة على التّلخيص. بل يمكن تقديم بعض اللّقطات أو تأخيرها أو حذفها من دون أيّ أثر يُذكر. لكنّ التّشظّي في هذه القصّة لا يمكن أن يكون بعيدًا عن أيّ تأطير، فهو تفكّك منسجم.
فصحيح أنّ القصّة لا تنمو عضويًّا، لكنّها تنمو بما يشبه بيت العنكبوت، حيث تأتي النّهاية مدهشة، تكسر أفق التّوقّع عند القارئ.
وفي قصّة “شيش باني – هالُّوين”، فيما كانت الأحداث تدور في مقهى ومخبز، ونقاش بين أهل الحيّ، تورد الكاتبة المقاطع التّالية:
“أحدهم سيطلب قهوته، وينتظر في الخارج ليتأمّل متجر الأزهار الملاصق للمخبز، بل ربّما يختار الجلوس إلى إحدى الطّاولتين مع بعض الرّوّاد، يتحدّثون دون سابق معرفة. هؤلاء النّاس يحملون كمّيّة كبيرة من الودّ واللّطف للجميع ولو كانوا غرباء”.
“ستأتي السّيّدة وكلبها من نوع الشّي واوا. إنّها جارته المعروفة بحبّها إيقاف كلّ أهل الحيّ، وفرض الحديث عليهم من شؤون تشغل بالها فقط”.
بعد هذه الثّرثرة بين الشّخصيّات التي تُعيدنا إلى مسرح بيكيت، تنتقل بنا الكاتبة إلى حادثة تعيد الذّكرى إلى أحداث عاشوراء وإلى عادات الأطفال القديمة، فتستحضر أناشيد من الأدب الشّعبيّ وتنهي القصّة بما يلي: “كانت أمطار اللّيلة الفائتة قد أغرقت كنيسة. ارتبك قليلًا لكنّها طمأنته بأنّها ستجد من يسأل عن كيس مشتريات نسيه في الخارج”.
تحاول الكاتبة أن ترسم مناخًا خاصًّا وشخصيّات وأزمنة وأمكنة تعاني من الانشطار. ولكن، في ظلّ العجز، يهيمن الزّمن الماضي الجميل بذكرياته وحلاوته. ولعلّه يمثّل صورة الأمل في ظلّ الواقع المتشرذم. ويمكن تأكيد ذلك من خلال تأمّل تصميم البنيان الشّامل للقصّة، حيث التّلاعب يميّز اللّقطات، لكنّ اللّافت أنّ حجم اللّقطات داخل القصّة لا يخضع لأيّ قانون أو قاعدة، فهناك لفظة تتألّف من صفحة ونصف، وأخرى من عدّة أسطر، وثالثة لا تتجاوز المقطع الصّغير. ولعلّ التّلاعب بحيّز اللّقطات يُسهم في التّمرّد على الأسس أو التّحدّيات المنطقيّة كما يجسّد التّناثر. كما أنّ اللّقطة الواحدة تنطوي على قفزات متعدّدة وومضات متنوّعة، ما يقوّي الإيحاء بالتّفتّت، كما في قصّة “المبنى القديم”.
تورد في مستهلّ القصّة:
“دفع الباب بيده اليمنى، بينما يده اليسرى ما تزال تدفئ يدها، مستسلمة لم تسأله إلى أين، منذ التقيا عند إشارة المرور، حيث تتقاطع أربعة شوارع واسعة، وسط المدينة، قريبًا من الميناء”.
ويستمرّ التّباين بين المقاطع، وتبدو العلاقة بين لقطات النّصّ علاقات تباعد بسبب تباين ومضات كلّ لفظة. ومع ذلك، فإنّ أجواء كلّ لفظة يمكن أن تتكامل مع أجواء اللّفظة التي تليها، وهكذا يتمّ خلق مناخ سرديّ عامّ، حيث يجمع خيط خفيّ بين كلّ اللّقطات، يتمثّل بالمقهى والنّادل والفطائر والحبيب السّابق.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اللّغة في قصّة “المبنى القديم” تنهض بمهمّات متعدّدة، فمن خلالها يتمّ الوصف والتّصوير والتّعبير عن المواقف والحالات، إضافة إلى هذا الإيحاء المباشر وغير المباشر لخلق المعاني والدّلالات والأجواء الجزئيّة، وخلق المناخ العامّ الذي يلفّ العالم القصصيّ برمّته. ولا بدّ أن نضيف مهمّة أخرى تتمثّل في الإيقاع السّريع في عدد من اللّقطات، الأمر الذي يجذب القارئ ويحثّه على متابعة القراءة.
أمّا قصّة “رحلة” فتمثّل حوار الإنسان مع ذاته، إذ تتناهبه أصوات متعدّدة تدفعه إلى التّأمّل في وجوده وكأنّه بذلك يختصر حالة كلّ إنسان يعيش في هذه الحياة. وهنا تبدو الكاتبة عالمة نفس وهي تحاول ولوج عالم الإنسان الباطنيّ. وفي ظلّ ما يعيشه هذا الشّخص، تنقلنا إلى حقيبة مركونة فوق خزانة الملابس، حيث تصف بدقّة كيف جلبها بعصا المكنسة، ووضع بداخلها سروالًا واحدًا مع ثلاثة قمصان، والأهمّ من ذلك محاولته التّخلّص من المفاجأة التي اعتبرها سمجة، والتي يحاول أصدقاؤه إعدادها له، والسّعادة غائبة عنه لأنّ هذا الإنسان يعيش في عصر تغيب عنه السّعادة. ثمّ ننتقل إلى مشهد كوب القهوة الذي ارتشفه في الصّالة التي بدا غريبًا عنها، حيث راح يتأمّل محطّات من حياته، وصولًا إلى نهاية غير متوقّعة: “رحلتي المفترضة كانت بلا جدوى، لأنّ كلّ ما كنت أفكّر فيه وأنا أستعدّ لها هو ما كان عليّ فعله؛ لن أقولم بترتيب حياتي، ولن أدير ظهري لذلك الشّخص الذي أريد أن أكونه، ولن أفعل ذلك أبدًا”. وكأنّ هذا البطل يمثّل رحلة الإنسان الوجوديّة.
ما أريد أن أقوله إنّ هذه الشّخصيّات التي لا اسم لها، لها دلالة أو علامة سيميائيّة، إذ الهويّة هي التي تميّز كلّ شخص عن الآخر. أمّا ما ترسمه لنا الكاتبة فهو صورة عن الإنسان المعاصر الباحث عن هويّته، وكأنّ هذه القصص لا تخرج من راوٍ واحد، بل من مجموعة من النّساء الذّكيّات والثّرثارات اللّواتي يراقبن العالم وهنّ يرتشفن فنجان قهوة.
كلّ هذا يشعر القارئ بأنّه أمام تجربة جديدة ومتميّزة. جديدة ببنائها ومادّتها وأسلوبها وهدفها. ولهذا، فهي لون خاصّ، أو هي كتابة تثير العقل أكثر ممّا تثير العواطف.
ولهذا كلّه، فإنّ رزان تفرض على المرء أن يقرأها مرّات عديدة، لأنّ الدّلالات الجزئيّة للصّور الوصفيّة والسّرديّة تتحوّل في أثناء التّقدّم بالقراءة كما تتحوّل بعد القراءة، إذ تبرز للمرء دلالات جديدة لم يستطع الإمساك بها. وهذا ما نسميّه أثر النّصّ في أثناء التّلقّي وبعد التّلقّي. وهي حركة تتمرّد على المألوف والمعتاد والمكرّر. لعلّ هذا النّوع من الكتابة يسعى إلى الكشف عن علاقة خفيّة معقّدة وجديدة بين الإنسان والعالم المعيش، إذ الذّات الواحدة لم تعد ذاتًا، بل تحوّلت إلى ذوات، فهل يبقى منها إلّا “الظّلّ”، كما تبيّنّا في قصّة “ظلّ رجل وحيد”؟ أو أحلام منسيّة “كيف يبدأ الحبّ”؟ أهي رحلة البحث عن الذّات في ذاك المقهى الفارغ إلّا من الذّكريات؟
في الواقع، تجسّد هذه المجموعة القصصيّة مفاهيم جديدة للفنّ القصصيّ ودوره وعلاقاته وأبعاده. وهي تنطوي على دلالات عامّة، إذ تهدف إلى إثارة الأسئلة، فكأنّها تجسّد رؤية جديدة. لا تنفصل هذه النّصوص في بنيتها القصصيّة الجديدة عن نظام الواقع، لكنّها لا تسعى ولا تحاول أن تحاكيه أو تعكسه أو تسايره، أو تناظر بنيته، لأنّها لا تريد أن يكون الواقع مرجعيّتها، فهي تكابد كي تكون مرجعيّتها بنيتها القصصيّة الفنّيّة ذاتها، ولهذا فهي تتعامل مع الواقع من منظور جديد وفهم جديد وكيفيّة جديدة، فهي تجسّد مفهومًا جديدًا لجماليّات التّلقّي ومفهومًا جديدًا لكتابة القصّة. فمهمّة القصّة لا تكمن في جذب القارئ وجعله منغمسًا في عالم الفنّ، بل تكمن في التّشويق، وتهدف إلى دفع القارئ إلى التّأمّل. فهي لا تدفعه إلى توهّم الحقيقة ولا إلى الاندماج مع بعض الشّخصيّات أو تفاصيل العالم القصصيّ، بل تدفعه إلى التّفكير من جديد في كلّ ما يقرأ، كأنّ القارئ يقرأ منفصلًا بدرجة ما عمّا يقرأ ويراقب، أو كأنّه يقرأ ويراقب، وهذا ما يمكّنه من النّظر نظرة نقديّة للقصّة ودلالاتها، ويدفعه إلى التّأمّل.
وفي سبيل هذا، فإنّها تعتمد على مبدأ عدم التّوقّع بدلًا من مبدأ الإيهام بالواقعيّة. ولهذا كلّه، فإنّ قصص رزان صادمة للذّوق التّقليديّ وللقارئ الذي تستهويه قصص الحبكة القائمة على التّسلسل والتّرابط والنّموّ العضويّ.
وتكمن أهمّيّة هذه المجموعة القصصيّة في أنّها تؤسّس لوعي جماليّ جديد يكون قادرًا على تحريض الوعي العامّ ودفعه إلى تجديد أدواته وأساليبه.