الثقافة
بواسطة Ronahi في أبريل 1, 2020 893
عبدالرحمن محمد
كم من العذابات تلزمنا كي نبوح بكل ما فينا من الوجع، وكم من الجرأة نحتاجها كي نُخرج كل ما يجتاحنا من زوابع المعاناة ونسائم البوح الجميل وبراكين الرغبة التي تحرق فينا دواخلنا، لعل الجبن عن الافصاح كثيراً ما يُخمد البراكين أوان ثورتها، ويقتل الكثير من براعم البوح الجميل، ويسكت ذاك الهمس الذي طالما استحال إلى صراخ يهز أركان الروح ويدمي اوصال الجسد المنهك بالمنع والمحصن بأسوار من العادات والأعراف؛ الاجتماعية منها والدينية والتي فُصلت وصُممت الكثير منها حسب أهواء واجتهادات أقل ما يقال فيها إنها كانت لأهواء وميول لم تكن سوية أو انها خدمت فئة بعينها ولم تكن بإرادة ورضا الشريحة الكبرى للمجتمعات التي ظهرت فيها.
قراءات ودراسات عديدة من اساتذة ومختصين ومثقفين تناولت رواية “رغبات مهشمة” للكاتبة اللبنانية اخلاص فرنسيس التي حملت الكثير من أوجاع لبنان؛ الشرقي الثقافة العربي الهوى، تلك الأوجاع التي تَبدَّت أكثر في محطتها الثانية حيث استقر بها المقام في الولايات المتحدة الامريكية، ولعل أهم ما يلفت انتباه المرء في الرواية حقيقة تلك الرغبات والهوى وتلك المناجاة التي كانت مع الذات حتى في صميم الرواية مما يلقي بظلال النشأة والمجتمع الذي تربت فيه الكاتبة وحمل الكثير من البوح العذري ان صدق التعبير، ليمكننا القول إن مجرد البوح حتى على الورق أعده البعض جرأة وربما مغامرة وبخاصة ان البوح جاء من “انثى”.
الرواية ربما فيها من التحليل والتعمق في خوالج النفس البشرية ما ينافس الأسلوب البديع في الكتابة الأدبية الأنيقة، وكأن الكاتبة درست علم النفس وتعمقت في شخصيتي الرواية الاساسيتين، بل أكاد اجزم أنها ملمة لحد كبير بشيء من علم النفس، وهي تفصح عن شيء من هذا القبيل في مقدمة الرواية:
“لقد صورت طبيعة النفس البشرية حين تكون قاب قوسين او أدنى من الموت، والانتصار عليه بقوة الحب، وعالجت مسألة الحب بمعانيه كافة، على المستوى الفكري والروحي والجسدي، ومتى وكيف يتخطى حدود الزمان والمكان والتقاليد والاعراف، في صياغة أدبية دون ان يمس احد بأذى”.
هو حرص العارف بالحب والمدرك لطبيعة من يكتب عنهم ومن سيقرأ لهم، ولذلك فهي تحرص كل الحرص على أن تتسلل في مكنونات الروح وخوالج النفس دون ان تعكر من نقاء أو أن تفصح من سر مكنون.
في رحلة الابحار عبر عوالم رغبات اخلاص المهشمة، أسفار وأسفار من الحلم والشوق والكثير من الأحلام المؤجلة من عصور، والبعض اليسير من التمرد على الذات وفك الحصار من التقاليد والعادات، الكثير من البوح الداخلي الذي يفصح عن عالم مكبوت يعج برغبات مدفونة تكاد أن تنفجر أعاصيراً حين تحركها دندنات روح تشتاق فسحة من الحب والبوح الجميل، فإذا بعوالم أخرى خضراء مزدانة بأزاهير الحب تنفتح كالجنان وتدعو للبوح وتتمرد على وأد الكلام وإن كان أجل الموعد بعيداً
“سألقاك الصيف القادم، تقف في ركن غرفتها، كيف لها أن تعده بهذا الوعد وهي تعلم انها لا تملك شان الغد” ولا تلبث أن تجيب ذاتها ولربما كي لا تزيد من الحيرة القاتلة وتجيب عن سيل الأسئلة وتفصح:
“ستلقينه، تصافحين يده، تقرئين ما تخبئه عيناه، وان طال مكوث يده في يدك فستتعرفين دهشة الحب، هناك لعلك تجدين الاجوبة لكل الاسئلة التي طالما أرقت نومك، نعم ستعرفين قصة حياته، وقصتك معه، ولماذا هو بالذات”.
وما زالت الكاتبة تمخر عباب نفس بطلتها لتكشف خبايا ولواعج الكثيرين من خلالها، إنها تفتش في خبايا تلك الأجساد التي هاجرت مرابع الطفولة بينما آثرت الروح أن تعانق أوابد وتفاصيل الوطن، وها هي الروح تقبل كل ما تراه العين وتبوح بما كانت تعانيه من غربة:
“أصوات باعة الخضرة والكعك، وجوههم السمراء التي لوحتها أشعة الشمس، صوت البحر والموج يضرب صخرة الروشة، الطريق المتعرج إلى ظهور الشوير، إلى جبال الأرز” .
أكان العشق والحب من الكبائر حتى كان ليحتاج كل هذا الحوار الداخلي والسجال بين القلب والعقل والروح، اكان البوح والافصاح عنه بطولة أم هزيمة، بطولة لكسر حواجز المنع والوأد والعادات، وهزيمة حين تنهك الجسد المضنى بلواعج العشق، حتى تترك المحب في هذا الزمن على مفترق طرق وبين خيارين أحلاهما مر:
“بذنب العشق أعترف، كلما نظرت إلى عينيه، آلاف المعاصي أقترف” ومن ثم بنظرة خاطفة بجملة تختصر قصة حياة تورد اخلاص حقيقة ما يجول في خاطر العاشقة: “تبكي أم تبتسم، كل ما فيه يدعوها إلى الفرح والألم”.
وهي رغم كل شيء لا تكاد تتخلص من محاكمة الذات و تنافر داخلي وهجس التناقض يكاد يقضي عليها، وهي تحاكم نفسها بنفسها وتكون الخصم والحكم والشاهد: : “جلست قاضية في قاعة المحكمة وفي الناحية الاخرى كانت محامية الدفاع، والمعي العام، في لحظات أصدرت الحكم، تربيتها تمنعها، والنواميس والتقاليد والاعراف، المدعي العام يتبختر في رأسها” ؛ هي صورة لإبداعية وتحليل عميق لا يكاد يصل اليه الا من سبر أفوار نفوس العشاق بل لأغوار نفس انثى شرقية عمرت الدنيا بالحب ومنعوها منه، ومنحت الكون الوانه الجميلة والطبيعة أزاهيرها وحجبوا عنها أزاهير الحياة وعطر الحب فيها ثم جلسوا يحاكمونها على ما يستجدونه منها من الحب وما يقتلهم في داخلهم من الرغبات في السر والعلن.
بعيداً عن السرد والتعمق في النص الادبي الذي جاء كقصيدة حب عذرية، وفي منأى عن النقد للرواية كعمل أدبي من حيث النص والمضمون والفكرة وأشخاصها وتشخيص تفاصيلها هناك جانب في غاية الأهمية –وبرأيي المتواضع- ان الرواية حملت الكثير من خفايا الروح ومن معاناة الانثى في مجتمع بات ذكورياً عالميا على العموم، وما تكابده المرأة الشرقية على وجه الخصوص، لتكون الرواية في المجمل قراءة فيما وراء الوجوه والأقنعة، وربما أن أكثر من امرأة ستجد نفسها معنية بما تقرأه وستجد ذاتها بين الكثير من الأسطر، وستُعرف الكثير من الرجال بجوانب قد لا تكون واضحة من قبل في الطرف الآخر.
ولن يخفى على القارئ الرسالة الواضحة من الكاتبة بأن الرجل في روايتها لم يكن أوفر حظاً وأوسع افقاً في فضاء الحب، وعالمهن، بل انه هو الآخر كان محاطاً بسلاسل من فولاذ العادات واسواراً من رقابة ممن نصبوا انفسهم أوصياء على سواهم رقباء.
“رغبات مهشمة” لا يمكن اغفال أي سطر منها، فتسقط حبة لؤلؤ من عقد القصيدة، وربما لا تكفيها قراءة واحدة، وقد تناولها العشرات من الكتاب والباحثين كعمل أدبي، قد يطول الحديث عنه، لكن الجانب الروحي والنفسي السيكولوجي وما تُرجم من بوح الذات العميق والمعاناة يستحق الوقوف عنده والاشادة به كعمل ادبي فيه رائحة القصيدة والحيرة والمحاكمة والمحاكاة وحلاوة ومعاناة البوح لتكون مميزاً بجدارة.