يوسف طراد للنهار
لم يكن لوالدتي خيال دارين روكز، لكنّها تقاطعت معها في جغرافيا الأحلام. لذى عرفت أمّي كيف تتلو صلوات، وترندح أغنيات حفظتها عن والدتها، لتبعد “القرينة” عن أحلامنا.
غمّست دارين فرشاتها، بكثير من تقاليد وشجاعة الهنود الحمر الذّين تعود لهم صناعة “صائد الأحلام”. سعياً منها في مجاراة صلاتهم، وعلاقة المودّة داخل مخيّماتهم التي كانت تطرد كوابيس أولادهم، وتبعد “قرينتهم” بحبّهم وباللّهفة عليهم.
تُرى هل تذكّرت دارين سهر والدتها على راحتها؟ وهل أيقظتها من حلم جميل راودها، وهي ما تزال تبني خيال ابنتها وحياً وخصباً؟ وهل تعلّمت من أغاني أمّها أبجديّة الرسم الجميل، عندما كانت تحيك الخيوط بصنّارتها لتصنع منها كنزة الشتاء، وقبّعة تقي الرأس لسع سياط ريح الشمال.
لقد أعطت، وما تزال تعطي الأمّ لدارين، كلّ أدوات صنع الخيال، والوشم الجميل على ضفاف الأحلام، والكثير الكثير من الحبّ المترجم بلغة الصنانير، والحزن والفرح والتعب. فمزجت الابنة مع أحلام فرشاتها على لوح الرسم بين كلّ هذه العطايا، ورسمت لوحة “صائد الأحلام”.
الخوض في تفاصيل تكوين اللّوحة، يعيدنا إلى تدفّق الألوان والإلهام من مآقي الأمّهات. وقد أشعلت في مخيلّة الولدنة كلّ مشاعل الجمال. فرسمت دارين من زمن ولدنتها البساطة جمالاً، وجعلت الفراش يتوحد مع فضاء المكان، وقد تهادت فيه أغنيات الأمّهات كي تنام الصغار. وعلى مساند غلّفتها الأمّ بأغطية حبّ، دغدغت الأحلام الجميلة الأولاد. والتقط “صائد الأحلام” الكوابيس، وجعلها تدور وتدور ضمن دائرته، ويصيبها الدوّار، وتسقط في بئرٍ من دون قعر.
لقد نما اطمئنان ولدٍ على أجنحة حلم داخل اللّوحة، وتاه كابوس داخل دائرة في ظلمة اللّيل، وشرب الصمت لغة القلق، واختال طيف امٍّ أمام حائط عُلِّق عليه “صائد الأحلام”. طيفٌ لا يلوي على شيء سوى على ألمٍ يعتصر الفؤاد، ودبيبِ وجعٍ يخترق حجرات القلب ولا يستكين، بل يظلّ يعبث في مسرى الجسد قلَقاً، لحين غفوة ولد بعد مرض، ودخوله مرحلة نقاهة، وهو يحلم بمغامرات”رنتانتان” أحد كلاب أطفال الهنود الحمر، التي كان يتابعها في مسلسلٍ للأولاد.
قالت الفرشاة: “ارتويت بخربشات حاملتي، بعد هذا الفيض من عبق الخيال، وخشوع الأحلام في أحضان الأمّهات، فالألوان كتبت كلمات السحر، والمدى رسم حكايا الهنود الحمر…”، فانتشى إطار اللّوحة من جمال الألوان، وردّ بهمس: “رمّمت دارين روكز حناني، من طيف أمٍّ رسولةٍ، تبتهل لها السماوات والأرض… وكلمات الفرشاة على ظلال قماش اللّوحة صلاة…”
أعادت دارين لأمّها بلوحتها هذه، ما كان لها في ماضيها من مكان في فسحة الزمان، حيث وضعت فيه فراشاً جميلاً على أعلى طبقة من مقعد مستطيل، طبقاته ملوّنة بألوان أمنيات الصغار، وعليه “خدَيْدِيّات” مستعدة دوماً لاستلقاء الأولاد، واحتضان أحلامهم الجميلة. وعلى حائط الذاكرة “صائد أحلام”، تعشق الكوابيس السحر في شبكته، وهي غير مدركة أنّها لن تستطيع الإفلات منها.
أعادت إلينا دارين روكز أمّهات، لازلن يرندِحن في سكوت المساء، وصمت الغياب مواويل فيروز: “يلا تنام ريما…” وفي أنوفنا منهنّ عطرٌ باقٍ مهما باعدتهنّ الأيام والأقدار.