قرأت شيئًا من سيرة ميخائيل نعيمة الذاتيّة” سبعون” في أيّام المراهقة والشباب. وعرفت نصوصًا متفرّقة منها في كتب التدريس، على مدى سنوات. وقد استوقفتني أجزاؤها الثلاثة، على أحد رفوف مكتبة أنطوان، منذ أيّام، ولم أكن أبحث عن كتاب محدّد، فوقع اختياري عليها، من دون كثير تردّد.
أنهيت قراءة الجزء الأوّل، أو المرحلة الأولى، من حكاية عمر نعيمة. وفي نيّتي أن أتابع قراءة المرحلتين الأخريين، حتّى إتمام الحكاية.
كنت أعرف الخطوط العريضة، والمحطّات الرئيسيّة، في هذه المرحلة من حياته التي تمتدّ إلى العام ١٩١١، حين غادر برفقة أخيه الأكبر ديب، وعروسه، إلى الولايات المتّحدة ليبدأ مرحلة جديدة.
ولكنّ الحكاية لا تقتصر على العناوين العريضة، فالتفاصيل الصغيرة التي ساقها تشكّل مادّة دسمة فيها.
وقد اختار نعيمة من التفاصيل ما يلفت الانتباه، ويساعد في تظهير الصورة التي أراد أن يرسمها للقارئ.
وضع نعيمة سيرته في إطارها الطبيعيّ والاجتماعيّ، فوصف لنا مسقط رأسه، بسكنتا، التي تشبه في الكثير من ملامحها معظم البلدات اللبنانيّة الجبليّة؛ ووصف لنا الشخروب، وتوجّه إلى القارئ بقوله: هذه الصورة التي رسمتها لك عن الشخروب قد تعطيك فكرة عن تكوينه الجغرافيّ. ولكنّها صورة ممسوخة ومشوّهة إذا أنت لم تُسعفني بخيالك على استكمال ألوانها التي تستعصي على أيّ ريشة، ومعانيها التي هي أعمق من أن يغوص عليها أيّ قلم.
ووصف حياة الكفاف التي كان يعيشها معظم الفلّاحين في تلك الحقبة؛ هذه الحياة التي دفعت بالكثيرين إلى ركوب البحر والاغتراب، بحثًا عن الرزق، ورغبة في مساعدة الأهل والأخوة القابعين في الوطن.
ووصف معاناة المغتربين، واختلاف حظوظهم من الكسب؛ فمنهم من عادوا موسرين فبنوا ” حارات القرميد” وابتاعوا بساتين التوت أو الكروم… أمّا والده فقال فيه: إلّا أنّ حظّ والدي من دولارات أميركا فلم يكن بذي بال. فما استطاع أن يضيف إلى أثاث بيته غير كرسيين من الخيزران…
ولقد ركّز نعيمة على فضل ” الكشّة” على لبنان، قال: إنّ فضل الكشّة على لبنان، لفوق ما يخطر في بال لبنان، ولو أنّه أدرك فضلها لأقام لها أروع تمثال من زمان ، وعلى أرفع ذروة من ذراه…( ص: ١٣٢).
هذا، ويصف لنا نعيمة تفوّقه في المدرسة واختياره لمتابعة الدراسة في دار المعلّمين الروسيّة في الناصرة حيث أظهر تفوّقًا فاختير لمتابعة الدراسة في روسيّا.
وهناك، أجاد اللغة الروسيّة وكتب فيها الشعر- النهر المتجمّد، على سبيل المثال- وتخرّج بعد أربع سنوات ليعود وفي نيّته أن يسلك طريق السفر إلى فرنسا لدراسة الحقوق، إلّا أنّ عودة أخيه ديب من الولايات المتّحدة جعلته يغيّر وجهة سفره ليرافقه إلى بلاد العمّ سام.
وفي الصفحات الأخيرة من هذا الجزء، يطرح نعيمة الأسئلة التي كانت تشغل فكره حول الإيمان وممارسة الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، ورجال الدين عمومًا، وهي أسئلة طرح ما يشبهها جبران والريحاني كلّ على طريقته….وأخيرًا ينهي بمشهد مقابلة أخيه ديب لوالده ووالدته المؤثّر ، بعد غياب أكثر من عشر سنوات تغيّرت فيها ملامحه…
لم تغيّر قراءة المرحلة الأولى من حكاية عمر نعيمة نظرتي إليه. فأنا من المعجبين بعصاميّته، وسعة ثقافته، وعمق نظرته، وسداد آرائه النقديّة، وطلاوة أسلوبه، وبراعة سرده…
في ١٨ حزيران ٢٠٢٤
شربل شربل
(ملاحظة: سأنشر لاحقًا مقطعًا موضوعه الكشّة، يستحقّ النشر)