روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم. لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية. شعراء أساسيون مثل وليم بليك، ميلتون، المعري، المتنبي، هولدرلین، روني شار نفسه، لوي أراغون، غارسيا لوركا، بابلو نيرودا وغيرهم، من أفراد السلالة الشعرية الاستثنائية، هؤلاء اختبروا هذه اليقظة بعمق، امتحنوا أنفسهم عبر الاستيقاظ باكرا في تلك اللحظة الاستثنائية الملتبسة التي يكون فيها العالم في المنزلة بين المنزلتين، مازال يغط في النوم، لكن إرهاصات اليقظة تراوده في ما يشبه الحلم. خبر ذلك أيضا إزرا باوند ودانتي تماما كما فرجيل. أدورنو المفكر النقدي الذي ارتبط بمدرسة فرانكفورت ولجأ مع صعود النازية مع مفكرين ومبدعين آخرين إلى أمريكا هروبا من ليالي السكاكين الطويلة، قال بانه لم يعد ممكنا ولا أخلاقيا كتابة الشعر بعد أوشفيتز وهو اسم أشهر معتقل إبادة نازي مع معتقلات أخرى، حيث أبيد الآلاف من يهود أوربا في الأفران الغازية. لكن دانتي كتب رحلته المتخيلة إلى الجحيم شعريا، كتب القصائد بعد العودة من الجحيم، وهولدرلين كتب قصائده الأساس من داخل جحيم جنونه الخاص. لوركا كتب قصائده داخل جحيم الخطر الذي يتهدده من طرف الكتائب الفاشية، نظرا لموقفه المساند للجمهوريين الإسبان، نفس الشيء وقع لبابلو نيرودا ورامبو كتب (فصل في الجحيم)، وكان آخر ما كتبه في سن الثامنة عشر قبل أن يعلن طلاقه البائن مع أوربا ويرحل نحو الحبشة أولا ثم نحو عدن. الشعراء غالبا ما يستيقظون وسط الجحيم ليروا بأعين مفتوحة الشر والعار الذي يطال الإنسانية، العار الذي يمحو إنسانية الإنسان تحت ظروف القتل، سفك الدماء، الجوع، الفقر، الدكتاتورية، يكتبون الرنو إلى عدالة كونية، بالرغم من أن فكرة العدالة ماتني تغيب عن أفق عالم ممنوح للهوس الاحترابي لمحو الهويات، لهذيان الوحش الرأسمالي الذي يفترس اليابس والأخضر فوق الأرض، ومن الهيمنة السياسية لأنظمة سياسة كبرى، ما زالت حتى داخل مواكب الكوارث والمصائب التي تعبر شوارع الأرض ومناطقها القصوى، تحلم بالهيمنة ..الهيمنة على ماذا؟ على الخراب القادم؟ على أرض لن تصير سكنا للإنسان؟ على جماعات بشرية وشعوب فقدت سكينة الانتماء لمسقط الرأس وصارت تائهة، تضرب في الطرقات وحدود الدول والصحاري، لتتحول إلى جماعات من اللاجئين تعبر البحور، المحيطات، الأنهار، المفازات الثلجية …إلخ؟ … هنا أتذكر صرخة امرئ القيس: (بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه..).. يستيقظ الشاعر باكرا ليقول عبوره الخاص للجحيم، يعود منه بعينين محتقنتین دما من فرط الرؤية والتحديق. دانتي ذو البشرة ذات اللون الغامق حين كان يعبر أزقة فلورنسا كانت ربات البيوت الواقفات عند ناصية الأزقة يمارسن النميمة، يعلقن قائلات بمجرد ما یرينه: “انظرن إنه الرجل الذي عاد من الجحيم.”. أحدهم نشر مؤخرا مقالا في الصفحات الثقافية لجريدة يومية عنوانه: (هل تستطيع القصائد أن تحرر الأرض.) … أقصى ما تستطيع القصائد القيام به وإنجازه هو أن تصف عبور الجحيم، منذ شذرات هيراقليط الفلسفية / الشعرية وحتى شذرات روني شار الفلسفية / الشعر وأناشيد Cantos إزرا باوند. القصائد لا تحرر العالم، صحيح أنها حين تنتمي للشعر الأساس قد تصف الجحيم ومناطقه القصوى تستيقظ باكرا لتصفه “على الريق” ولكنها لن تستطيع تحريره، لأنها جزء لا يتجزأ منه. إرنستو ساباتو الروائي الأرجنتيني العميق والإسرافي قال بأنه إذا أزلنا جزء الجحيم من [الكوميديا الإلهية] لدانتي فلن يبقى منها شيء. الاستعارات والصور الشعرية لا تحرر الأرض. تحرير الأرض مهمة أنطلوجية رئيسة لكنها ليست مهمة الشعراء. سبق لهيذغر في مقاله الهام [مجـــاورة الميتافيزيقا] ضمن كتابه [essais et conférences] أن تصدى لذلك عبر الحديث عن استنزاف الأرض، وعن اشتغال الإنسان المسرف على مواردها، إلى حد أنه استنفذ كل إمكانياتها وأصابها بالإرهاق. الأرض في ظل حرب الاستنزاف la guerre d’usure التي طالتها لم تعد عالما ممكنا، بل نوعا من اللا-عالم un-welt. إنها نوعا ما حرب استنزاف لكينونة الأرض، لماهيتها الأنطلوجية. في مرحلة ما قبل ظهور الإسلام كان لدى العرب ما يسمى شاعر القبيلة، لكن وظيفة مثل هذه لم تعد ممكنة بالنظر إلى النثر la prose الذي اجتاح العالم، وإلى القبائل المعولمة التي تمخره كالأطياف، قبائل اللاجئين، المشردين، المنفيين، والمقصيين من عملية القسمة الضيزي التي توجهها نيو ليبرالية متوحشة وأوساط المـــال والأعـــمال الكانيبالية. لـــن يـــكتفي الشـــاعر ســـــوى بما كــــتبه وغــــناه بوب ديـــلان فــي إحــــــدى روائــــعه: [knock, knocking on heaven’s door] هنا البعدان الإيديلوجي والسياسي لتحرير الأرض يحضران بقوة ولكن ضمن سجل آخر غير السجل الشعري الذي له علاقة أكثر بالبعد الأونطلوجي. هولدرلين أحد الذين جسدوا هذا البعد الأونطلوجي للشعر، بالرغم من أنه في مرحلة أولى، قبل السنوات الطويلة التي قضاها في غرفة مطلة على نهر النيكار طاعنا في ليل جنونه، كان ثوریا، متأثرا بالثورة الفرنسية الحديثة، وانخرط في اجتماعات سرية للتآمر لإسقاط الإمبراطور، وحين علمت مخابرات الرايخ بذلك اعتقلت بعض الأفراد وفر هولدرلين، ذلك الفرار الأخير الذي قاده إلى ليل الجنون وإلى مجاورة قصائده الباذخة. جبل دولوز يقول بأنه يجب ألفرارو أن نعثر حين نفر على سلاح، سلاح هولدرلين كان الشعر، القصائد الاستثنائية brot und wein وغيرها، ثم العودة إلى الأصل الافتتاحي الإغريقي مع هبريون، وترجمة مسرحيات سوفوكل ترجمة خاصة ومتميزة جدا اعتبرها الكثيرون بمثابة النص الأصل. القصائد تسكن الأرض ولا تحررها، لأن هذه الأخيرة (التحرير) مهمة إرادوية غير ملقاة على عاتق الشعراء ولا علاقة لهم بها. أقصى ما وقع لدرويش هو أنه ظل أسير قراءات تنطلق من كليشي جاهز مفاده أنه “شاعر القضية”، وهو نفسه في مرحلة ما صرخ قائلا: (أنقذونا من هذا الحب القاسي). صنعوا منه شاعر قبيلة حديث، لم يقرؤوا حساسيته الشعرية الكامنة في التفاصيل. هولدرلين قال: (الشعراء يؤسسون ما يبقى…)، لكن ما يبقى لا علاقة لها بالعابر في هشاشة يومانيته وانشغالاته العابرة. هناك صخب الأحداث، أضواء بروجكتوراتها الصارخة، سرعتها الهذيانية من جهة وهناك من جهة أخرى زمن القصائد الذي ينعلن على المدى الطويل في صبر الدقائق، اللحظات، الأوقات حين يخفت الصخب. يجب أن نستحضر بأن قصائد الشعر البروليتاري كما كتبت إبان الثورة السوفياتية كانت مع الروايات الخاضعة لمنظور الواقعية الاشتراكية من أكثرها فقرا في الإبداعية الشعرية، كانت بيانات ايديلوجية أكثر مما هي قصائد شعرية. الآن نتذكر أوسيب ماندلستام، فاغلام شالاموف، وانا أخماتوفا، وهؤلاء كتبوا خارج النومنكلاتورا الشعرية المعترف بها رسميا، بل إن الأولان قضيا سنوات طويلة في الكولاغ الستاليني. اقرؤوا [حكايات الكوليما] لشالاموف. هنا بالذات نتوقف للقول بأن الشعر لا يحرر الأرض، تلك المهمة البارانوية العصابية التي تتوهم أعتى الإيديلوجيات والحركات السياسية القيام بها، لكن الشعر يمكن أن يحرر الإنسان، أن يعيد للإنسان إنسانيته، أن يجعلنا نكتب في إطيقا العابر، المسكونة بالبدائل المتعددة، نـوع من الإطيقا المرتحلة التي تحول الأرض كلها، أو “العـــالم كـــله” “monde -le tout” حسب مفهوم إدوارد غليسان، إلى مسقط رأس. يجب ألا ننسى في سياق الحديث عن تجربة الشعر البروليتاري بأن مايا كوفسكي الشاعر الذي تقمصها وجسدها قد مات منتحرا. الآن من كل ما كتب درويش لا أكاد أتذكر سوى: [أحن إلى خبز أمي..] و[تفاحة للبحر بيروت.] وشذرات / مقاطع أخرى. يجب أن نكتبها، بالرغم من أن ذلك قد لا يعجب الكثيرين وهو أن الحركات السياسية والإيديلوجية الكبرى غالبا ما أنتجت شعراء عاديين جدا. المعري أعلن صرخة شعرية قائلا: [أنا أعمى فكيف أهدي الناس والناس كلهم عميان] وحين دخلت داعش معرة النعمان بعدما اجتاحت شرق سوريا، كان أول ما قامت به هو قطع رأس المعري، رأس تمثاله عفوا، لأنه مات منذ قرون. قد يبدو رامبو أبعد الشعراء عن السياسة، ولكن قصائده تتضمن كما في [فصل من الجحيم] نقدا جذريا للمركزية العقلانية الأوروبية وحين ذهب إلى الحبشة كان قد ودع هذه الأوروبا التي تعتبر نفسها مركز الأرض. يذهب الشاعر العابر بنعال من ريح نحو القصيدة يركض باتجاهها يركض نحو القصيدة – العالم، نحوmonde -le tout، وأثناء ركضه يكتشف بأن القصيدة مجرد رغبة تظل دوما رغبة. الدوكسا السياسية والإيديلوجية تعتقد بأن قضية الشاعر يجب أن تكون قضيتها بالذات. ما قضية هيراقليط؟ ما قضية المعري، باوند، رامبو وغيرهم من الشعراء الأساسيين وحين أصف هؤلاء بالأساسيين أعني أن الشعر قضية أونطلوجية بالنسبة لهم، لا مجرد ترف في الكتابة، البحث عن مجد وهمي، مجرد برستيج يروم تحقيق ذاته عبر الحصول على جوائز بمقابلات مالية دسمة. قبل تحرير الأرض، التي هي مهمة هائلة حار فيها المنظرون والفلاسفة وأخفقت فيها العديد من الأنظمة السياسية والتجارب الثورية، يلزم تحرير الإنسان من أغلال الدوكسا والبؤس الثقافي والفقر الرمزي، وأن يكون معيار هذا التحرير لا المرجعيات الإيديلوجية البارانوية الصلبة، بل الحرية والحرية وحدها، محبة الحياة، التحقق من الفضائل المدنية المادية، وهنا بصدد مساعدة الإنسان على استعادة إنسانيته يمكن أن يتدخل الشعر، لا كما يتدخل محترفو السياسية والشعارات الإيديلوجية، بل كما يتدخل الشاعر. روني شار قال في إحدى شذراته: [devant tout effondrement de prenves le poéte répond par une salve d’avenir] الشاعر ليس شعبا ولا قبيلة. الشاعر سهم نيتشي مقذوف في فراغات الأرض ولا يدري أي هدف سيصيب السهم الذي قال فيه المتنبي: [وما أنا غير سهم في هواء…]. حين ذهب دانتي ليعبر الجحيم اختار دليلا له شاعرا آخر هو فرجيل. وحده الشاعر قد يكون دليل الشاعر وسط الغابة الغامضة una selva oscura التي وجد دانتي نفسه داخلها في منتصف العمر. قد يكون الشاعر دليل شاعر آخر، لكنه يظل سهما معزولا في قوس الأبدية، شاهد لا أحد يشهد له، كما قال بول تسيلان…