“ينام” فريديرك نيتشه ملء جفونه عن شواردها، منذ 122 عامًا، ويسهر الخلق جراها ويختصم. حين تباهى المتنبي بنفسه في هذا البيت من إحدى قصائده، نام هو أيضًا عن شوارد جفونه، من دون أن يدرك أن فيلسوفًا ألمانيًّا سيأتي بعده، بنحو 900 عام، ليملأ الدنيا ويشغل الناس.
كثر قادرو نيتشه، وكثر أيضًا منتقدوه. لكن من تجرأ على نقضه، إنما واحد، هو المهندس المعمار فريد يونس، في كتاب صدر أخيرًا في الولايات المتحدة الأميركية، باللغة الإنكليزية، عن دار Cune Press, Seattle Washington تحت عنوان “استفاقة نيتشه… مداهأة فريديريك”. والمداهأة كلمة اشتقها الكاتب حين أراد البدء بترجمة كتابه إلى العربية، وتعني منازلة نيتشه في الدهاء، أو مسايفته به.
فريد يونس خريج المعهد الوطني للفنون الجميلة في لبنان، تابع دراساته العليا في تاريخ العمارة ونظرياتها في جامعة مونتريال، ونال فيها شهادة الماجستير ومن ثم الدكتوراه. درَّس في “جامعة بيروت العربية” وفي “جامعة الروح القدس”، وما زال أستاذًا مشاركًا في “جامعة سيدة اللويزة” التي ترأس قسم الهندسة المعمارية فيها. وهو عضو في أكثر من جمعية معمارية ولجنة فنية ولجنة تحكيم، وفي «نقابة المهندسين والمعماريين اللبنانيين» في طرابلس.
والكتاب فلسفي ارتكز على نقض أمثال نيتشه وأقواله المأثورة، بأقل جهد ممكن، ولكن بعمق فات كثرًا ممن تناولوا صاحب “هكذا تكلم زرادشت” بالتحليل أو التفسير. إذ بدَّل يونس مواقع كلمات في أقوال نيتشه، فكان له ما أراد، هو الذي صرف نحو 15 عامًا في دراسته والتضلع من فلسفته. وقد أثرت في يونس الفلسفة، مذ وضع أطروحته، في جامعة مونتريال، عن فلسفة العمارة الإسلامية أو العربية في العصر العباسي.
نيتشه
في عصر الغموض وعدم اليقين الذي نعيش، وبعد “أزمة” ما بعد البنيوية، يمكن تصنيف الكتاب في فئة الفلسفات والآداب المعاصرة لأن تأثير نيتشه في الفكر المعاصر ما زال سائدًا. والأساس المنطقي لعمل يونس هو تحفيز القراء على التفكير، لنفي مفاهيم “الفطرة السليمة”، وإعادة التشكيك في سبب وجود المبادئ والعناصر، ولرفض “المطلقات” (“الحقيقة”، “الجميل”، “الصالح”) حتى لا نكون أسرى اقتناعاتنا، فضلًا عن انتقاد نظرية المعرفة ومنهجية العلوم، والتساؤل عن أنطولوجيا الإنسان وغائيته.
هذا ما ورد في مقدمة كتاب “استفاقة نيتشه”، ليقسَّم في ما بعد جزءين: الأول عنوانه “فريديريك، أفكارك المتكررة ليست أبدية”، ويركز على التناقضات والسخرية وعلى أبعاد جديدة، أما الثاني فهو عبارة عن أمثال وتأملات ليونس يدعوه فيها إلى أن يتدخل ويفاضل فيها، تحت عنوان: “فريديرك، هل أفكاري الأبدية متكررة”؟ سؤال كأن نيتشه يطرحه اليوم “هل أفكاري الأبدية ما زالت صالحة؟”. يدعو يونس إذًا الفيلسوف الألماني إلى الاستمتاع والتفكير قليلًا، ليخلص إلى أن لا جدوى من التفكير.
يتألف الجزء الأول من بداية وثلاثة فصول تحتوي أمثالًا مختارة لنيتشه، من كتبه، وكل مثل منها أتبع بتعديل للمؤلف يونس. ويكمن تحدي التعديل في كيف يمكن أن يكون تدخُّل المؤلف بالحد الأدنى، إما لتناقض ما في قول نيتشه (الفصل الأول)، كونه أكثر سخرية مما هو عليه (الفصل الثاني)، وإما لتقديم أبعاد جديدة (الفصل الثالث).
ويتألف الجزء الثاني من ثلاثة فصول أيضًا ونهاية. تتكون من أمثال للمؤلف يونس مصنفة بحسب الصعوبات التي واجهها، ليحث نيتشه، في المقابل، على صقل كتابه! فالمفهوم الرئيس لشكل الكتاب هو تجسيد “العود الأبدي” الذي يعرّفه نيتشه بأنه: “إثبات حركة دائرية من سلسلة متطابقة تمامًا تقول إن العالم كدورة قد كرر نفسه بالفعل في كثير من الأحيان بلا حدود ويلعب لعبته بلا حدود”. أي إنّ من قال إن المؤلف قد ألهمه نيتشه لتعديل أقواله المأثورة، فلماذا لا يقول إن فريديريك استوحى من كتابات يونس ليكتب أقواله؟
وتدور أفكار الجزء الثاني على الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس والسياسة والأخلاق والدين والفن والعمارة واللغويات والتاريخ والاقتصاد والأدب والقانون والطب والرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء.
غلاف الكتاب
إذًا، ثمة اعتبارات شتى تسمح للكتاب بأن يكون مميزًا:
أ- عنوان الكتاب ومفهومه: العنوان المقترح جذاب. قد يوقظ البعض، ويرفع مستويات الفضول لدى آخرين، بل ويفعل كلا الأمرين، كما تفعل العناوين الأخرى المقترحة. إضافة إلى ذلك، فإن المفهوم أصلي حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يؤمنون بـ”العود الأبدي”، بينما يدعو المؤلف يونس نيتشه إلى تعديل أمثاله، على الرغم من استحالة ذلك، (نيتشه توفي عام 1900)، وهذا ما ينقلب على القارئ، إذ إن للمادة تنظيمًا ومظهرًا بسيطًا، على الرغم من صعوبة هضمها، لأنها تجذب المفكرين والمهنيين وكذلك الممارسين.
ب- تحدي نيتشه: يعدُّ تغيير أقوال نيتشه إلى حد بعيد مهارة فائقة تتطلب جهدًا فكريًّا ومجهودًا جادًّا حقًا للوصول إلى هذا الإنجاز العالي، لأن التغيير مرتكز على طريقة تتجاوز حدود إمكان النقض التام. والواقع أن ليس من الصعب، فحسب، استيعاب أقوال نيتشه، مقارنة بالفلاسفة الآخرين الذين يُفهمون من القراءة الأولى، لكن التحدي أيضًا هو أن تتناسب مع ما لا يمكن قياسه. أما الأمثال المختارة لنيتشه، فهي الأقوال المأثورة الأكثر “شعبية” التي نجدها على المواقع الإلكترونية. وأما التناقض مع نيتشه أو لكونه أكثر سخرية مما هو عليه أو توسعة أقواله، فمهمة صعبة. قد يؤيد البعض كتاب يونس أو ينتقدونه. علمًا أن بعض الكتب التي تهاجم نيتشه قد ضللت القارئ انتقائيًّا، فهاجمه أصحابها بسبب سوء فهم وجهة نظره الدينية أو رؤيته إلى الأخلاق والقيم، أو حتى بسبب وجهة نظر سياسية.
ج- أهمية الكتب في الأمثال والاقتباسات: في عصر الذروة والسرعة والاستهلاك، بتنا نعمل على النصوص القصيرة أو الأمثال للتعبير عن الحد الأقصى بالحد الأدنى من الكلمات، بأفكار مركزة تتطلب تأملات ويمكن عدُّها دروسًا. فكل قول مأثور يتحول قصة أو كتابًا أو فلسفة، خصوصًا أنّ كثرًا من الفلاسفة استوحوا أقوال نيتشه وبنوا عليها فلسفاتهم الخاصة. أضف إلى ذلك أن قراءة كتب الأمثال ممكنة في أي وقت، وتتم في وقت قصير وفي أي مكان (حتى في وسائل النقل العام)، لا بل يمكّن القارئ فتح أي صفحة والشروع في القراءة بها.
د- موضوعات الكتاب: تتنوع الأقوال المأثورة في كتاب يونس، فلا تتناول مجالات متنوعة فحسب، بل تستدعي الأبعاد الأربعة للحقول المترابطة لمفهوم النموذج: نظرية المعرفة (الأمثال التي تنتقد المعرفة وأسسها ومداها وصلاحيتها في مختلف المجالات)؛ علم الغائية (انتقاد الغرض من الظواهر ونهايتها)؛ علم الوجود (انتقاد طبيعة الوجود)؛ المنهجية (انتقاد الطبيعة اللامحدودة لمنهجيتنا العلمية).
وعلى الرغم من أن البعض يصعب عليه فهم نيتشه، سيجد كثر في كتاب “استفاقة نيتشه” سهولة سواء كانوا مفكرين أو بسطاء. وقد وضع الكاتب نفسه مكانهم حين شرع في مشروعه هذا، لأن مكانة نيتشه لديه كبيرة، إلى حد أنه حين قرأه كله، وفهم أبعاده، ولم ينجح في الحصول على كتب تنتقد أو تعدل أمثال نيتشه، لجأ إلى “إعادة تشكيل” تلك الأقوال.
المصدر: الصفا نيوز