على المشرحة 46
تعاسة خطب المنابر وبؤس محاضرات منصّات التواصل
فقدان الروعة والانجذاب وطغيان التفاهة والابتذال !
سّيار الجميل
محاضرون يتكاثرون ، ومتحدّثون يتزايدون ، وملالي يكذبون ، وجاهلون يخطبون ، ومعلقّون لا أول لهم ولا آخر يستعرضون ! لو بقينا نستمع ونشاهد هذا الكم الكبير من الفيديوهات المعروضة على اليوتيب وشاشات عشرات الفضائيات لساعات طوال ، لما بقي لدينا الوقت كي نعمل ونقرأ ونفكرّ ونأخذ قسطاً من الراحة أو نستأنس بالحياة .. وكم كنت أتمنى أن تكون تلك الفيديوهات متضمنة محاضرات حقيقية لها أساليبها الجادة وغاياتها النبيلة وتلقى من قبل اناس مؤهّلين وأكفاء نتمّثل فيهم معاني العلم وفن الالقاء والمنهج والمعرفة ، أو رجال دين أسوياء من ذوي التفكير السليم دون أن نسمع منهم لأباطيل وحكايات مجانين ! لكن للأسف الشديد ان أغلب ما يعرض يكتنفه التزوير والتسّرع واستعراض التفاهات والانشائيات المزدحمة بالاخطاء والمغالطات والأنويات والتشوّهات.. بل مما يزيد الأمر تعاسة، ما يردّده الناس من اعجاب بالملالي والدجالين، أو ما يتقولّه هذا وذاك من تعليقات تافهة ومجاملات رخيصة في ما يسمونه بالحوارات .. مما يزيد الأمر تعاسة ولغواً وقتلاً للزمن والانسان أحوج ما يكون للزمن اليوم ..
محاضرتان بائستان !
شهدت قبل يومين فيديوهات لمحاضرتين اثنتين استغرقت كلّ واحدة مع الحوار الذي أعقبها أكثر من ساعتين ، بمعنى أنني قتلت أكثر من أربع ساعات من الزمن لسماع ما فاه به هذا أو ما أطنب به ذاك .. قد لا أعتب على شخص عادي لا يدرك كيف يحاضر ، ولا يعرف كيف يحكي ، وهو غير متمكن من منهج مقول القول ، ولا من روعة في الخطاب ولا من قوة في الاستهلال أو زبدة النهاية .. ولكن كلّ العتب على من جعل هؤلاء أساتذة ، وهم لم يدركوا أبسط قواعد الالقاء ، ولا فنّ توزيع الأفكار ، ولا اختزال العبارة ولا التواضع في الحديث ، ولا خطل الاسهاب والاطناب ..
لقد ساءني جدّاً ما قاله أستاذ جامعي وهو من جيل طلبتي ، فقد أطنب في موضوع هائم عائم، ولم يلتزم بعنوان ما قال، وبقيَ أكثر من نصف المحاضرة يلقي بتنظيراته وتكرار ما نعرفه من بديهيات، ولم يدخل الموضوع الّا بعد لأي ولم يتبق من الوقت الّا قليلاً ! ومما يثير الحنق حقّاً أنه ينتقد الاخرين كونهم لم يعرفوا التحليل الذي يتباهى بأنه أجدر من يمارسه !!
ما هذا الاستهتار بالاخرين ؟
أغلبهم يتكلّمون لساعات من دون أيّ ذكر لعلماء ومؤلفين وأساتذة كبار من بني جلدتهم من الذين صرفوا أعمارهم في اثراء هذا التخصّص أو ذاك.. الا ترديد اسم أو اسمين من الاسماء القديمة .. انهم يغيبّون ذكر علماء البلاد والذين ابدعوا فيها ، اذ تسيطر عليهم عقدة الخواجا ، فتجدهم يستعرضون اسماء أجانب غربيين او يتباهون باسماء معينة من كتّاب عرب بعيداً عن ذكر علماء بلدهم وهم يستهينون بهم ! بل وممّا يزيد في الطين بلّة ، أنّ بعض هؤلاء الجدد يحاول عن قصد وسبق اصرار أن يغيّب رموزاً من غير ملّته أو طائفته ولم يذكر الّا أسماء محدّدة من بني طائفته ويتجاهل الاخرين! وآخر لا يذكر الا رفيقه البعثي ، او ذاك لا يتباهى الا برفيقه الشيوعي وقس ذلك من القوميين والاسلاميين وهلم جرا
تاريخ العراق المعاصر : اثراء ام تشويه؟
المشكلة الأخرى ، ان كل من هبّ ودبّ يتكلم عن تاريخ العراق وهو لم يحكم قراءة التاريخ بجزئياته ، فيتورط باطلاق احكام خاطئة واخرى قاتلة .. فان كنت ضعيفاً في السيطرة العلمية على مرحلة تاريخية معينة ، فكيف لك ان تتحدّث على هواك؟ أما ان أردت الطعن بمرحلة معينة أو بشخصية بارزة ، أو بنظام حكم معينّ ، فعليك الّا تدّعي الموضوعية والآمانة فبضاعتك ستكشف من قبل الناس ، وسيعرف من يسمعك أين تريد الوصول !
وهنا ينبغي القول ان اغلب من يقدم تعليقات ويتبرع باستعراض آرائه لا يتوانى عن ارائه السياسية شخصية او مؤدلجة أو عاطفية على التاريخ ، فهو لا يعرف بدقة مثلا ما جرى ما بعد 1921 ، فيبدأ يوزّع أحكامه جزافا ، وكلّها خاطئة كونه لا يفقه التفاصيل أبداً . انّ من أبشع ما يمارس اليوم عند بعض المثقفين العراقيين هو الانطلاق من زوايا طائفية محدّدة لتوزيع أحكامهم ويقوم بتشويه الحقائق المعروفة حسب الأهواء بشتى الطرق الملتوية كي يصل الى الهدف الذي كان قد رسمه مسبّقاً ، أو أنه حلقة في سلسلة فئوية معيّنة تتجّمع عند محور معّين . فتجدهم ينظّرون في الوطنية والهوية الوطنية والروح الوطنية .. ولكنهم يؤمنون تماماً بالاغلبية والطعن في الاقليات والأطياف المتنوعة . وهؤلاء الذين غزوا قنوات التواصل من رجال الدين واغلبهم من الدجالين والتافهين والجهلة المارقين باكاذيبهم وخرافاتهم التي يندهش لسماعها الالاف المؤلفة ..وكلّ ما يأتي به لا يصدّقه لا التفكير ولا العقل والمشكلة ان الناس تعتبر هذه الاكاذيب مقدّسة !
وأخيراً، ماذا أقول ؟
انّ من يقدّم محاضرة الى الناس عليه أن يكون ملّماً بموضوعه ، دقيقاً في موازنته بين خطابه ومعلوماته والوقت المخصّص له ، فلا تعالج موضوعاً كبيراً لا تستطيع السيطرة عليه، ولا تتوّقف لتشرح جزئيات على حساب تغطية الموضوع .. كن قليل التنظير كي لا يخرجك ذلك عن اطار موضوعك . عليك أن تمنهج نفسك وتعرف كيف تختزل الفقرات ولا تحكي بسماجة بل بلغة واضحة تقلّ فيها المصطلحات المبهمة ، وتعرف كيف تختم كلامك بحصيلة ما قلت ..
نشرت يوم الأثنين 26 آب / اغسطس 2024 على الموقع الرسمي للدكتور سيّار الجميل .
All reactions:
54Khairalla Said, Sayyar Al-jamil and 52 others