بقلم ديلان تمي
قراءة أدبية
ديلان تمي
المجموعة الشعرية التي لربما توحّد الأرض في حنجرة كلّ كردي صلّى لترابٍ تقاسمَه الطُّهاة لأربع حفنات على خارطة لا تفقه معنى كلمة وطن. جحيم جرّدنا من سكتات مقتنعة بمصيرها وانحناءات رؤوس رفضت الأقلام الانحناء مثلها، حُرّضت فينا من جديد تلك الصرخة المذبوحة من فناء كلّ بيت كردي أفدى بروحه لهذه القضية المتوغّلة في الدم جينياً قبل أن يُربّى عليها الأجيال فكرياً ويدافع عنها الأبرياء في حرب سامّة. الكردية ليست قومية ولا انتساب أو انتماء إنما عقيدة ودين نولد به منذ الصغر، وشريان تربويّ لولاه لما تهجّر شعب في سبيلها حتى تدفّق آخر قطرة كرامة. هذا جحيمك، جحيمي وجحيمنا جميعاً. إن رغب الكردي بتشييد وطن لا بُدّ له بالعلم والقلم ذاك الذي يصل صريره أكثر من فوهات مدافع تدعك مصطلح الإنسانية بالأقدام وتمسح أثر رقعة مليئة بالوجود، فما القلم إلا رصاصة فكرية تستقرّ في العقل وتنفجر بشظاياها النبيلة في أعماق الفساد والجهل المتحضّر، فتقتلعه إلى الأبد. لنستحق وطناً بعيداً عن جزّ الأعناق وولولات الأمّهات، علينا باقتلاع جذور الخيانة ما بيننا ونتحد!
تبدأ المجموعة الشعرية الأولى للشاعر الكردي إدريس سالم بنصف كلمة تترك أثراً بليغاً في ذات كلّ قارئ، نصف كلمة تقشعِرُّ منها أرواح مَن لامست قلوبهم وتعاطفت مع الظروف التي أولدتْ هذه المجموعة الجميلة من نوعها، بقصائدها العشرين، المختارة بعناية، والمكتوبة في بداية اندلاع الحرب في سوريا. لمَن لا يعرف روح سالم عليه بقراءة نصف كلمته، ليبني على جسدها انطباعاً أولياً لكاتب سخي في عطائه الأدبي.
يختتم سالم نصف كلمته الموجّهة لوالده بزفرة متألمة: «ما يقهر الروح يا أبي: غريب يرانا كباراً وقريب يرانا صغاراً. هو وجه العدالة القبيح». تتناول المجموعة الشعرية أهم القضايا المجتمعية، الإنسانية والسياسية على عدة أصعدة متعلّقة بالقضية الكردية وقضاياها الأخرى، وتسلّط الضوء على المجازر الشنيعة التي ارتكبت بحق الكرد في مدنها كوباني، عفرين وهولير في (132) صفحة، والصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في الأردن عام 2020م.
قصائد محصّنة بإحكام، بدءاً من اللغة الصعبة والمناسبة لكتابة مقطع شعري قوي بفكرته وملائم لقالبه الأدبي، فالمهمة الأولى تبدأ بالتحليل والتنقيب في أعماق الرمزيات الدفينة، والتغلغل في الدلالات التي لا يقدّمها الشاعر بطريقة سهلة المنال، إنما يدفعك للنحت في صلب القصائد، لتصل للجوهر، فلا يكفيه عنائك في التنقيب بل يعلّمك بحكمته في مجال تقييم النصوص الأدبية ونقدها: أن الشعر بخلافه عن الرواية وكتابة النصوص الأدبية الأخرى هو حالة روحانية مجهدة للمشاعر والأفكار التي تتطلّب الكثير من الاطلاع، لتفكيك ماهيته الملغّزة بالمعاني العميقة التي يخبّئها كلّ بيت.
قراءة ما بين السطور غريبة وممتعة؛ فبين كل سطرين توجد إما فكرة قوية، رسالة صريحة أو هدف مصمّم عليه وبين كل مقطعين تأمّلات، شرود وأسئلة تعبث بالفكر والمنطق، إذ أن القصائد بعيدة كل البعد عن المعتاد، فقد يحاصرك حرف واحد في زاوية مظلمة، ويدفعك الخيال الرهيب بإبداعه إلى التوقف ملياً أمام حدس روحي وشاعري. حقائق مقتطفة من أرض الواقع مما عاشه شعب الله المحتار من مجازر وجرائم فظيعة ارتكبت بحقّه وظلم دفنه التاريخ القميء بمهارة لصّ تحت أكوام العظم. ما يزال الحبر غزير الاستنزاف على الورق؛ فالحرب لا تبدأ بمدفع هاون أو دبّابة راجمة، إنما بفكرة فاسدة يزرعها الغرب باحترافية مشيطنة في العقول الصغيرة لأبناء وطننا الذي بات حلماً منفياً على الأرض، ملدوغاً في صدر كلّ مدافع عن هذه القضية العقيمة بالسلاح، بالنضال والقلم.
رسائل الشاعر واضحة ومستهدفة لفئات معيّنة، فمن خلال نقده البارز للقضايا يؤكّد لنا عن الكردي الذي مهما كان مخلصاً لقضيته ووطنه ستبقى يداه متّسختان بالغدر والطعن في الظهر، حيث يقول في قصيدته «غناء الحجل»:
للكرديّ يدان
كما للعربيّ والعجميّ…
يدٌ مَمزوجةٌ بالوطنية،
وأخرى مَغموسةٌ بالخيانة
وما بينَهما
شعبٌ يُهجّرُ
حلمٌ يتبخّرُ،
ووطنٌ يصبحُ جمرا. الصفحة (15).
وفي قصيدة أخرى عنوانها «ذاكرتان لخمسة أيتام»، في مخاطبته الربّ الذي جعلنا نعاني من قدر أبله، فيقول في الصفحة الثلاثة والأربعين:
مزّقْتَ بنا حضاراتٍ وحضارات
أولدْتَ من لغتنا
لغاتٍ مُبعثرةً
زرعْتَ فينا الخيانةَ نبتةً
ربطْتَنا بحبال العبوديةِ
فكنّا أسئلةً كُبرى
تدورُ في سعادة معزولةٍ
أو حقيقيةٍ
اصطادَها تخمينٌ
يطوفُ في سجائر الغرباء.
في الحرب كل الفواجع محلّلة واللاأخلاقية متاحة، تسقط الأقنعة الخادعة واحدة تلوة الأخرى ويكشف الحجاب عن كل الحقائق التي تخبّئها النفوس، تنقلب الأدوار جميعها إلا دور الفقير المعدوم يبقى على حاله متأرجحاً بين الموت والبقاء، وكأن الحرب جاءت لطحن أحلامه. تُطرق أبواب الرحمة مراراً فلا تفتح إلا للياقات الفاخرة المصفقة بحرارة للبراعم المتعطّشة لروح الثورة، جاء هذا في المقطع التاسع من قصيدة «غناء الحجل»، فكشفت الستار عن المتضرّر الأول الذي يدفع حياته قرباناً حفاظاً على كرامته مع هبوب رياح الذلّ والغلّ، وفي المقطع العاشر وجّه الشاعر رسالة خاطب بها شعبه بكلمة «تعلّموا» أن الأوطان لا تبنى بالاعتقالات والخطف ونشر الرعب بين بعضنا البعض، ولا تبنى بسفك الدماء ودفن الشهداء إنما الخطوة الصحيحة هي الاتحاد كالجار والمجرور والكفّ عن الطعن في الظهر والخيانات التي ترضع منها الحرب لتكبر.
إنه الواقع الغارق في الذلّ إلى القاع، والحرب أمّ عاهرة تجهض أبناءها قبل ولادتهم، وتقرع على الطبول في ساحة طنّانة بأغرب الأصوات وأفظع الصور المقطّرة دماً، فما سَلِم إنسان أو حيوان من الافتراس والتشتّت والنهش في العظم جوعاً وقهراً، ففي «صراع الطواحين» يقول الشاعر بصورة قاسية:
رائحةٌ عفِنةٌ تفوحُ من كوباني
كلابٌ
قِططٌ
وفِئرانٌ يتصارعون
ليلَ نهار؛
بحثاً عن قُطعة عظمٍ
مَثقوبةٍ بالرصاص
طافِحةٍ بجيوش نملٍ لقِيطةٍ
تنحتُ فيها…
الخيال في هذا المقطع مشابه لوصف الجحيم بسيلان لعاب الجوع للأمان، للنور والسلام فيأتي العنوان مُعرّفاً عن هيئته بالجحيم الحي، ليحيي القضايا المدفونة في مقبرة التناسي والتستّر، فيشعل فتيلة القومية المتعصّبة من جديد، إذ استخدم في المقطعين الثاني و السادس من قصيدته أصوات الحيوانات دلالةً قوية على الخوف المسيطر على كل ما هبَّ ودبّ في بلاد الخراب، وبهذا أعطى صورة دقيقة لحالة التوتّر والرعب المتفشّية في المدن بعد تهجير أهلها، طالباً بلَمّ شمل أبناءه من دول الغرب، ينطق بقلمه للمهاجر بألا يرحل، فلن ينتمي يوماً إلى غرباء الغرب ولن يمثّل ثقافتهم، دينهم وشريعتهم، فالجوع في الوطن كبرياء أرحم من الذلّ على أبواب الدول الأخرى.
في مقطع شعري آخر يوضّح خُلاصة حالة الحرب المشوّهة، حيث الوطن الذي تتاجر فيه الوطنيات كأرخص السلع، ويصاب فيه الضمير المتيقظ بالعدم، والإنسانية تتبخّر فلا يبقى إلا بيادق تحرّكها الأيادي الخفية من مستفيدين وناهبين ولصوص، فلا يكتمل مسرح العرائس الهزلي ذاك إلا بتحرّش أصابع الدول الغربية اللاهثة وراء مصالحها على حساب خواء معدة الأطفال وتهجير أهاليهم، حيث ليس لهم إلا الله:
هُم…
يصنعون منّا
ما يريدون…
يبيعون لنا
ما يصنعون…
كلّما خيّطْنا وجهاً جديداً
عُدْنا…
وارتديْنا وجوهَنا القديمة.الصفحة (40).
إضافة إلى الأسلوب المحكم والمتمكّن في مجال كتابة الشعر، فتتميّز المجموعة بنقل الوقائع بطريقة إبداعية، توسّع حلقة الخيال لدى القارئ، وكما يعرف عن الشعر أنه حالة روحانية تُعاش في عالم من ورق ووسيلة لتغيير المسار الفكري للشعوب، فجاءت هنا القصائد بقوّة التأثير على المخيّلة، لإيصال الفكرة بفظاعة واقعيتها وقسوتها، وهذا ما خلق حالة محيّرة ومُقشعرّة للأبدان، فمثلاً الفوضى العارمة التي تخلّفها الحرب بين أبناء الشعب من اقتتال وانتهاك وافتراءات وفساد على أعلى المستويات، جاءت في قصيدة «أيتام وطن من ورق»، حيث يأتي في المقطع الرابع:
أيتامُ وطنٍ من ورق
في عِراك، على أريكة ما…
أفيالٌ تغتصبُ نَملةً
أفاعٍ تزرعُ فحيحَها
في رؤوس الديدانِ
صقورٌ تنتشي
في سِيقان الجنادبِ
قططٌ تتحرّشُ بالذئاب
هذا هو وطني
مستعمراتٌ تتحرّرُ
من شراساتها
مجازٌ يعيشُ في المجاز.
هذا ما يُدسِسه أصحاب الياقات الفاخرة وتجّار الوطنيات في عقول صِغارنا، الذين لم يحصدوا من الحياة إلا فساداً فكرياً ومجتمعياً وطفولة مغتصبة من فوارغ رصاصٍ ورائحة بارود ممزوجة بالبراءة. أعين لا تعرف الكذب إن بحثت عن كسرة خبز لمعدة خاوية، وكأن صقيع حديد السلاحِ أدفئ من حضن أمّ مدفونة تحت الأنقاض.
القصائد العشرون في «جحيم حيّ» غير متشابهة في مضمونها وقضاياها، رغم أنها مكتوبة لشعب واحد يهتف لصالح قضية واحدة، فجاء التنوّع في اختيار المفردات وبناء الصور الشعرية بتمكّن وإحكام كدافع قوي للغوص في التفاصيل الدقيقة للكتاب، للاستمتاع بما تقدّمه قراءة ما بين السطور من أفكار ورمزيات. الترابط الوطيد ما بين المقاطع كان رهيباً وأعطى المجموعة قوة وصلابة، بعض الكلمات رغم تكرارها في الأبيات جاءت بمعاني مجازية مختلفة وأوصلت الفكرة والصورة بطريقة مميّزة ومختلفة أيضاً فأعطت المجموعة تناسقاً جميلاً.
الكاتب الحقيقي يكتب للبيئة التي عاش فيها وترعرع على راحتيها، ليمثّل لنا عن طريق قلمه وطنه المنكوب وآفات شعبه، آملاً أن يُحدث في الوسط ثورة فكرية وتغيّراً جذرياً نحو الأفضل، وهنا استوقفني سؤال محيّر إذا كنا نعرف تماماً ما هي عِللنا وننتقد بعضنا البعض بقسوة: لم لا نعالج هذه القضايا ونبني مستقبلاً مشرقاً لأبنائنا؟
الرسائل التي يريد الشاعر إيصالها صريحة وموجّهة لجهات معيّنة، بهدف التوعية والاستيقاظ من التنويم المغناطيسي المسيطر على أصحاب السلطة بأسلوب نقدي حاذق من حيث الفكرة والمنظور البعيد.
لغة الشعر حرّة ومفتوحة؛ إذ إن الإحساس الطاغي والمتدفّق يؤلف من تلقاء نفسه دون اتفاق مسبق مع العقل الباطن بيتاً شعرياً متناسقاً في موسيقاه وجاذباً في لغته، ومع تداول كتابة الشعر الحديث يملك الكاتب مساحة كافية لإطلاق العنان لخياله الخصب وخلق نوع مختلف من القصائد، فمثلاً يُعبّر القسم الأول من قصيدة «غناء الحجل» من النوع المصطلحاتي في إطار فلسفي دفين، حيث قصر المقاطع وصخب ماهية الكلمات كان بارزاً ومتّسعاً للفهم.
الدمُ:
ابنُ الموتِ والقتلِ،
وابنُ الحبِّ والحياة.
الأرضُ:
شقيقةُ الروحِ والجروحِ
شقيقةُ الألمِ والأمل.
الخيانةُ:
ابنةُ السلاحِ والمصالحِ
ابنةُ الطمعِ والقمع.
الرصاصةُ:
عشيقةُ عذريةٍ
تستقرُّ في الظَّهر،
أو
في الرأس.الصفحة (11 و 12).
وفي قصيدة «إحباط ثَرْثار» جاء حوار فلسفي عميق كنوع من الجدال بين الشاعر وإحباطه، إذ جسّد لنا صورة الإحباط على أنه إنسان حقيقي منفعل، يمكن تبادل أطراف الحديث معه وحثّه على الحرب النفسية التي يعيشها الشاعر بينه وبين أناه ونظرته الخاصة للقضايا وأسئلته المنطقية الكثيرة حول مصير الشعب. هذا الحوار ما ميّز القصيدة عن غيرها، وخلق في صلبها انجذاباً لاشعورياً في النفس ففي القصيدة روح حيّة تخاطب والشاهد الوحيد والمحايد بين الطرفين يكون القارئ:
أقهيْنا معاً
أمامَ نغمِ الأغْياضِ
توقّفَ تفكيرُنا
لثلاثين سنةٍ مُجدِبةٍ.
كنّا نفكّرُ باللاغد
استمعْنا إلى أوبرا فشلٍ
عاثرٍ
عاهرٍ…
تشاتمْنا
تجادلْنا
نعتُّهُ بالمُتسلّط،
بالمُترفّه على حساب الرافهين
نعتَني بالعدم!
كتابة مقطع شعري استناداً على كلمة مفتاحية مختبئة ما بين السطور ليس بالأمر السهل، خاصة إذا تواجدت حزمة الأفكار التي يجب تطابقها مع الأحرف الأولى للكلمة، لتعطي البيت الشعري ثباتاً وتناسقاً أدبياً وإيقاعاً موسيقياً منمّقاً. في المجموعة جاءت هذه المنحوتة الأدبية في ثلاث قصائد «وطن معتّر، ألم… إكسير للحياة وبقايا امرأة»، وتضمّنت أسماء عبثت بالفضول والكيان إلى أن تفرعنت في المخيلة إشارات استفهام كثيرة، وجاءت في قصيدة «وطن معتّر» كالآتي:
نحن مَن نتاجرُ بثمانية حروفٍ
قد تلعنُنا
لو نطقَ التاريخُ.
نبيعُ الكافَ لكفيف
ينهالُ على العالم بنزفه.
الواوُ مزدهرٌ من روح العرّافاتِ
راءٌ تشعرُ بوحدة بكماء
دالٌ تهتفُ:
«نصفي نصلٌ جارحٌ،
ونصفي حريرٌ صعبٌ أن تنساني،
وصعبٌ على عقلك أن يتّبعني».([1])
هناك…
معضّلاتٌ مسكونةٌ في سيناتها
تاءٌ أدلجَتْ نفسَها مع ألِفٍ عاطفيةٍ
ونونُ عطشٍ يرفضُ ارتواءً
من يد الحقيقة.
سيخلّد التاريخ ذكرى المجازر التي ارتكبت بحقّ الكرد في سوريا، فمَن يستطيع توثيق التاريخِ الحقيقي دون تشوّهات وانحرافات في كتبه حتماً سيكون مرجعاً وبرهاناً كافياً للأجيال القادمة لما ضحى به أجدادهم من دماء وأرواح في سبيل القضية الكردية تنديداً للسكوت عن الحقّ والمطالبة بالأرض الطاهرة.
لا تكتمل المجموعة إلا بختام قصيدة عن المرأة وتسليط الضوء عليها من نواحٍ عدة، فدائماً ما يشغل جمالها وجاذبيتها حيّزاً كبيراً في النصوص الأدبية والشعر الغزلي القديم وإلى يومنا هذا تحتلّ المرأة المساحة الأكبر في الشعر، حيث الرجل يكتب عن المرأة، والمرأة تكتب للمرأة، لكن في «جحيم حيّ» كُتبت قصيدة واحدة فقط، وكانت كافية لتجسّد مدى قُبح الواقع الذي تعيشه النساء من ظلم وانتهاك للحرّية الشخصية وحقّ تقرير المصير في مجتمعنا الذكوري وكما قال كارل ماركس: «إذا أردت أن تعرف مدى تقدّم مجتمعٍ ما، فانظر إلى وضع المرأة».
يتمركز صلب القصيدة على تحكّم الأعراف المغبّرة والأفكارالرجعية البالية في مصائر النساء، حيث ارتكاب الجرائم في حقّهنّ بدءاً من فرض القرارات القسرية عليهنّ، إلى التستّر على مشاكلهنّ خوفاً من الفضيحة أو العار، ومن أقوى وأهم الرسائل التي نقلها لنا الشاعر عن طريق «بقايا امرأة» هي ضرورة ثبات المرأة وبقائها في كامل وعيها وقوتها الجسدية والعقلية حتى تستطيع العيش بسلام وتثور على الظلم والقيود التي تتحكّم بها وتكسر بينها وبين المجتمع حاجز الصمت والتسلّط.
الأنثى بالفعل علم كالكيمياء، كالرياضيات والأحياء، كما ذكر الشاعر في الصفحة (127)، ولفهم هذا العلم لا بُدّ من إتقان اللغة التي تتحدّث بها الأنوثة، وعيش المرأة بجميع حالاتها النفسية والحسية.
إن موضوع الاعتداءات الجسدية والجنسية دائم الجدال عليه، فالمرأة إذا كسرت صمتها وحرّرت نفسها من القيود أصبحت متمرّدة ومتعجرفة في نظر الجميع، وإن صبرت وتستّرت على قضيتها غرقت في الحرائق إلى أن تلاشت واستسلمت للموت البطيء. يبدأ الشاعر قصيدته الاستثنائية قائلاً:
أكتبُ لبقايا امرأةٍ
خطفوا منها قدسيةَ أصابعِها
مزّقوا رغبتَها
على وسادة بَلهاء.
أكتبُ لبقايا مُهتجِنةٍ مَحفورةٍ
بفأس الفحولِ
تفأدُ من أوْصَاب
مَجنون رسميّ مُفَرْتك
من أخ خَتّارٍ
ووريثُ شيطنةٍ
تتفرعَنُ…
فتسيلُ أنهارُ الضبابِ
قريباً من هنا،
والقمرُ يسكبُ دخَاناً
على حدائق الشبق.
تختتم القصيدة بدافع قوي للتمسّك بالأمل رغم كلّ الحرائق التي نشبت في صلبها، وتحرّض الصمت للثورة في وجه الظلم وكسر كلّ القيود والقواعد لتتحرّر، على أمل أن يستيقظ الضمير والوعي لإنقاذ ما تبقّى من سكرات أنوثة باقية.
أخيراً لمَن يقرأ «جحيم حيّ» عليه أن يملك قلباً قوياً وبصيرة بعيدة المدى وخلفية ثقافية مختصّة أو ملمّة في المجال السياسي والتاريخي، ويعرف الكرد كشعب وقضية، ويقرأ عن تاريخ نضالهم وتمسّكم بقضيتهم ومصيرهم المجهول، إلى جانب تمكّنه من تفكيك شيفرات الرموز الشعرية، خاصة الشعر الحديث، ليستطيع الولوج إلى أعماق القصائد، ويستمتع بما يقرأه، ويستفيد من المجموعة، لأنها إحدى الكنوز التي سيكسبها التاريخ في حصيلته. على لسان المجموعة نفسها أودّ القول:
اقرأني لتعرف كم من المجازر والحرائق عِشناها وسلكنا طريق عنادنا محمّلين بالشهداء على أكتاف أمّهاتنا! كم من القبور حفرتها أظافرنا، فتُهنا في مجهول جاهل! اقرأني لأعبث بألمي وألمك، وأريك حقائق مصائبنا كما خُلقت، دون تحريف أو تزوير! اقرأني لتتوحّدني، آملاً أن ننفض الغبار عن ترسّبات أفكارنا، ونحدِث تأثيراً إيجابياً يدعم قضيتنا!
([1]) من إحدى قصائد «روبي كور»، للمترجم «محمد عبد الكريم يوسف». شاعرة وممثّلة ومؤلّفة هنديّة، من إصداراتها: «الشمسُ وأزاهيرُها» و «حليبٌ وعسل».