لم يطو الأدب الانكليزي إلى اليوم صفحة الحب العاصف الذي أودى بحياة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث في العام 1963م بعد أن اكتشفت خيانة زوجها الشاعر البريطاني تيد هيوز. فلا تزال الدراسات عن سيرتها وسيرة هيوز ترفد المكتبات بالمزيد من الأسرار الشخصية والأدبية عن تلك الفترة العاصفة من حياة أفضل شاعرين ظهرا بعد جيل الحرب الثانية في تاريخ الشعر الانكلو أميركي. آخر كتاب صدر عن سيرتهما لأيلين فاينستاين وهي صديقة الاثنين وصديقة ثالثتهما أسيا ويفل التي سرقت تيد من سيلفيا لتلاقي المصير ذاته، الانتحار على الطريقة التي انتحرت بها الشاعرة الأميركية. تيد هيوز الذي يعدّ آخر الشعراء الكبار في بريطانيا، وسيلفيا بلاث رائدة الشعر الستيني، وواضعة أصوله الأميركية، كتبا أفضل قصائدهما تحت تأثير تجربة تفوق في غرابتها عوالم الشعر السحرية. انتحرت سيلفيا بلاث بعد أن أدخلت رأسها في فرن الغاز مخلّفة وراءها طفلين وسمعة أدبية طيبة في بريطانيا وأميركا، ومجموعة أعمال نثرية وشعرية بينها أوراقها الخاصة التي اعترف هيوز أنه أحرق جزءاً منها ومن فصول رواية لم تكملها. غير أن ما نشره هيوز من شعرها وضعها في موقع الريادة في موجة الستينات رغم أنها لم تكن تتجاوز الثلاثين من عمرها عندما انتهى بها المصير هذه النهاية المحزنة. والحق أن سيلفيا بلاث بدأت نشاطها الأدبي المرموق قبل هذا التاريخ، منذ أن قدمت إلى بريطانيا طالبة في كامبردج، الجامعة التي تخرّج منها أهم الشعراء الانكليز، فنشرت قصائدها في الصحف والمجلات الأدبية وقدمت من القناة الرابعة في الراديو البريطاني برنامجاً أدبياً، إضافة إلى مجموعة من المسرحيات الإذاعية والقراءات الشعرية التي كانت تواصل عبرها تقديم قصائدها الجديدة. لعل نشاط سيلفيا بلاث الاستثنائي وموهبتها التي برزت في وقت مبكر، كانتا على تساوق مع اندفاعتها في الحياة وقلقها المبدع، هذا القلق الذي كان يدفعها باستمرار إلى ربط الشعر بحياتها الخاصة، فما من قصيدة كتبتها من دون أن تكون على صلة بتجربة عاشتها. كان رهانها على الشعر يقوم على مبدأ الربط بين الإحساس المكثّف بالأشياء وطريقة تمثّلها حتى ولو كان هذا التمثّل على نحو تجريدي أو ميتافيزيقي. وفي الندوات والبرامج الأدبية التي قدمتها كانت تتوجه بالنقد إلى الشعر البريطاني الذي رأت فيه كساداً وعطالة بسبب ابتعاده عن التجربة اليومية. ومن حصيلة شغلها يمكن التصور أنها كتبت أفضل نتاجاتها من وحي حبها المتطرف لهيوز، مثلما كتبت عن أثاث بيتها وطفليها وأبيها وأمها والناس الذين تمقتهم أو تحبهم من دون كذب ومواربة. العبرة في جديد هذا الشعر أنه اتخذ اتجاهاً فيه الكثير من الصراحة والمكاشفة والجرأة ليسمى لاحقاً شعر الاعتراف. قصيدة الاعتراف غدت بعد سلفيا بلاث أهم التيارات في النص الانكلو أميركي وعلى وجه الخصوص في شعر النساء. تحدّث تيد هيوز في غير مناسبة عن مميزات نص بلاث وريادته، واعتبر البعد الاعترافي فيه وراء تلك الاندفاعة والزخم التي غيّرت وظائف اللغة الانجليزية وقرّبتها من ملمس الواقع. الأهم من كل هذا ان سيلفيا بلاث القادمة من أميركا قد رفدت شعر هيوز نفسه بتلك القدرة على المزاوجة بين قصيدة الأفكار وقصيدة الحياة. فتيد هيوز مثقف موسوعي درس الانثريولوجيا في كامبردج وتوغل بعيداً في دراسة الأديان القديمة وكان مهتماً بحضارة الشرق والاتجاهات التصوفية في الإسلام، انعكست ثقافته الأدبية والفلسفية على شعره وتوضحت معالمها في تجاربه مع اللغة التي أراد تخطي الراكد فيها عبر رحلة البحث عن منابعها في التراث والفلكلور. ولكن موشور قصيدته كان شديد الحساسية في التقاط التجارب التي مرّ بها وفي المقدمة منها تجربته مع سيلفيا بلاث. صمت تيد هيوز ثلاث سنوات بعد وفاة بلاث، كانت سنوات الذهول والإحساس بالمحاصرة، لينشر بعدها مجموعة أعمال كانت على انشغالها بأمر البحث عن مخرج فني للشعر الانكليزي، تستمد قولها من تجربته العاصفة مع سيلفيا بلاث، فظهر كتابه (حياة الغراب وأغانيه) الذي طبقت شهرته الآفاق وضمن له مكانة مرموقة في الأدب العالمي وهو كتاب يبدو أقرب إلى تقصي الأوجه المتضاربة لفكرة إبليس والخطيئة. وبقي محافظاً على خط تطوره الذي توج قبل أشهر من وفاته 1998م بصدور مجموعته التي أعادت إلى الشعر البريطاني زهوه (رسائل عيد الميلاد) الموجه إلى سيلفيا بلاث دون غيرها من النساء اللواتي مررن بحياته. لعل هذا الكتاب يعيد الاعتبار إلى قصة حبها المجروح ويجيب على حملات التشهير والكراهية التي جوبه بها الشاعر طوال حياته من قبل كاتبات الأدب النسوي اللواتي اتهمنه بالتسبب في تعاسة النساء. فقد صدرت منذ وفاة سيلفيا بلاث إلى اليوم العديد من الكتب التي اعتبرتها واحدة من أفضل الأصوات المعبِّرة عن خصوصية الكتابة النسوية وقدرتها على تجسيد العذاب والتمرد في اللغة الشعرية المعاصرة. ومع ما حفلت به بعض تلك الكتابات من تعصب وحماس، إلا أن النقد الأدبي الذي كتبه الرجال لم يقلل من شاعرية بلاث إنْ لم يعمد إلى تأكيد مكانتها مبتكرة ورائدة من رواد الأدب الأميركي الجديد. ولم تكن تجربة حياة بلاث الغريبة إلا جزءاً من سيرة شعرها بكل الجنون والعنفوان الذي يحفل به. كان هيوز يعرف أكثر من غيره أسرار سلفيا بلاث التي ترجمها في ديوانه الأخير وقد اعتبره النقّاد من بين الأعمال النادرة التي لم يسبق لشاعر انكليزي أن واجه فيها تجربته بهذه الصراحة والقوة والجرأة على البوح بأخص الأشياء وأكثرها حميمية. أعاد كتابه هذا إلى الشعر ألقه ومكانته التي تزعزعت في السنوات الأخيرة، رغم أن هيوز ما كان يحسب إلا من المعلّمين النادرين في الشعر الانكليزي الذين تركوا بصماتهم على شعراء مهمين من شيموس هيني الحائز على نوبل إلى آر. س. توماس الذي يعتبر من شعراء بريطانيا الكبار. ما أراد قوله هيوز عن سيلفيا بلاث بعد كل سنوات الصمت، هو أن الموت لم تكن له حاجة إلى اختلاق الأسباب كي يسوق سلفيا بلاث إلى عالمه السري. فقد كانت تضع هذا الموت على مقربة منها، فهي باندفاعتها الشعرية التي تجاوزت عمرها، في محبتها الملتبسة له ولأبيها، كانت تقف على حافة الهاوية وتنتظر الذهاب إلى ممالك الشعر المجنونة لا مملكة الحياة. عاشت سيلفيا بلاث حياتها الأولى في أميركا بين عائلة من أصول ألمانيا، وكان والدها مريضاً ومكتئباً، صدمت بموته وهي صغيرة وبقيت ذكرى غيابه عن البيت تؤرقها طويلاً. وعندما دخلت في أزمتها مع زوجها ربطت بين صورة هيوز وصورته في قصيدتها المشهورة (دادي) التي حولت هذا الأب إلى نازي لأنه كان يأتيها في الأحلام على هيئة وحش يأخذها إلى الهاوية. تقول في واحدة من أكثر مقاطعها وحشية:
“ما من امرأة إلا وتعشق فاشيا
الجزمة في الوجه، القلب
القاسي، القاسي، القاسي لرجل قاس مثلك”
كانت سيلفيا بلاث تقتفي خط انخطافاتها المسحورة إلى مدن الشعر الغريبة، تلك الأصقاع السرية التي تلتبس فيها المحبة بالكراهية بالخوف والإقدام بالشجاعة. هل بمقدور قصة حب أن تحول الشعر عن مساره؟، وهل كان بمقدور تيد هيوز وسلفيا بلاث أن يكتبا أعمالهما لو لم يمرا بتجارب هي أقرب إلى حكايا الشعر منها إلى الواقع؟ سيرة تيد هيوز الجديدة التي شرعت بكتابتها ايلين فنستاين بعد وفاته مباشرة في العام 1988م وأصدرتها هذه السنة، تسلّط الضوء على حياة المرأة الأخرى التي اعتبرت شريرة وخاطئة ومسببة في إجهاض موهبة شعرية كبيرة مثل موهبة بلاث، إنها تتحدث عن أسيا ويفل التي سحرت هيوز وأنهت مشروع شراكة الحياة والأدب بينه وبين سلفيا بلاث. فسلفيا بلاث كانت على صغر سنها منظمة لمشروع ظهور تيد هيوز إلى العلن شاعراً مؤثراً. فهي التي طبعت على آلتها الكاتبة ديوانه الأول (النسر في المطر) 1957م ووضعت اسمه الذي اختارته (تيد) هيوز بدل ادوارد جيمس هيوز وأرسلته إلى أشهر دار للنشر في انكلترا وأميركا ليتولى ت. س. إليوت تحريره ويرى فيه بداية طيبة لشاعر شاب.
ظلت الحياة تسير على صعوبة العيش بين شابين في مقتبل عمرهما الأدبي، هو خريج جامعة كمبريدج وهي بعد طالبة فيها وأم ّ لطفلين، ولكنها روائية وشاعرة تحمل مشروعها الجديد، إلى أن دخلت المرأة الأخرى لكونها امرأة قيّض لها أن تقع في دائرة السحر بين مجنونين كانا يعدان الحياة ذريعة للشعر. أسيا ويفل الفاتنة التي يصفها تيد هيوز بالساحرة الغاوية ابنة الذئبة أو عاصفة الشهوة السوداء! . أنيقة سمراء بشعر بني يميل إلى السواد وبعينين خضراوين وحضور فاتن في كل المحافل التي تحل فيها. سبق أن تزوجت ثلاث مرات وهي بعد لم تتجاوز العشرين، وتعرفت على هيوز من خلال زوجها الشاعر الذي استأجر بيتهم في لندن. يقول هيوز في وصف تلك المرأة:
“في الأهداب الكحيلة الندية
في الحرير المتوهج كالنار
في الأساور الذهبية:
ملوثة قليلاً بغموض شهواني”.
ظل شبح سيلفيا بلاث يطارد آسيا ويفل ويحكم الطوق حولها اجتماعياً بعد أن سكنت في البيت ذاته الذي سكنته غريمتها وظنت في البداية أنها تملك الشجاعة لطرد بلاث من حياة هيوز، بيد أن الواقع أثبت لها العكس ليزيد غربتها عن الشاعر الذي راهنت عليه فانعزلت عن الحياة بعد أن بدأ هجرها هي الأخرى، لتموت منتحرة بالغاز ولكن هذه المرة مع طفلتها من هيوز نفسه. كانت الأشهر التي اكتشفت فيها بلاث علاقة الحب بين الاثنين ومغادرة البيت من أكثر المراحل خصباً في حياة الشاعرة الأميركية، رغم تصاعد موجات الاكتئاب التي كانت تخضع خلالها إلى علاج نفسي مكثّف لم يساعدها قدر ما فاقم مرضها، ولكنها من جهة أخرى كتبت أفضل أعمالها ونشرت روايتها (قارورة الجرس) في حفل تكريم حضرته النخبة الأدبية البريطانية. لكن تلك النجاحات لم ترضها مقابل فقدها هيوز الذي أحبته بجنون. فهي لم تكن طامحة إلى الشهرة كي تحصل عبرها على التوازن النفسي بدليل ان معظم أعمالها ظهرت بعد وفاتها ومواضيع تلك الأعمال تنصّب على علاقتها الحساسة مع الحياة. إنها تكتب عن كل ما يمس كيانها من الأشياء الحميمية غير مبتعدة عن الواقع قيد شعرة. ولكن قدرتها على التحّكم باللغة ساق قصيدتها إلى عوالم أكثر رحابة من الواقع ذاته. نفاذ صبرها ومازوخيتها وتلك الأناقة المترفة في وحشية الكلام ووقفات الصمت والمراوحة بين الصراخ والكتمان، كونت عوالم سيلفيا بلاث البكر:” الام أظل جداراً يصدّ الريح، إلآم أخفف غائلة الشمس بظل يدي “كانت لحظات سلامها مع الحياة قليلة، ولم يكن الحب في حياتها إلا ذريعة للموت: “أنا الآن راهبة، وما كنت بمثل هذا النقاء قط/ رغبت عن الزهور، ولكن رغبت في هذا وحده: أن أرقد ويداي مرفوعتان”.
يصف تيد هيوز سيلفيا بلاث في واحدة من أجمل قصائده:
“أي طقوس كانت تتلى
في ذلك القداس الليلي، ذلك المجمع السري
حيث كنتِ أنتِ الكاهنة؟
هل كانت تلك القصائد
حطاماً مما أنقذته؟ كانت يقظة نهارك
أمناً منهوباً حاولت أن تتشبثي به غير عارفة ما أرعبك
أو من أين يتبعك شعرك
بساقيه اللزجتين بالدم. في كل ليلة
كنت أنّومك، أهدهدك بالهدوء، بالشجاعة. بالفهم، بالسكينة
هل أعانك ذلك؟ في كل ليلة
كنت تهبطين ثانية إلى سرداب المعبد السري
ذلك الكهف الخاص، الأولي
تحت القبة العمومية
كنت طوال الليلة
تطلين غير واعية
على الصدع حيث تستنشقين النبوءة
التي لا تنطق إلا بما هو مختوم”.
لا تقل طريقة كتابتك ابداعا عن ما كتبت عنهم …او عنه …جميل طريقة ابراز الوحش المسمى الحب او الحياة التي ابتكرته مواجهة الموت البطيئ فياخذنا الى الموت السريع…ربما هي قصيدة وجود اخرى, لنحن الاوراق المتناثرة في رياح الحياة نكتب ونقرأ عن تناثر اوراق اخرى …
شكرا
كل الشكر لمرورك