ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستند هذا الفيلمُ الشهير الى روايةٍ شهيرةٍ بذات الإسم ، للكاتب الآلماني ” باترِك زوسكيند ” ، صدرت عام 1985 . و قد نالت شهرةً واسعةً في الأوساط الثقافية فاشترى الممثل الأمريكي ” داستن هوفمان ” حقوق تحويلها الى عمل سينمائي بعشرة ملايين يورو لتتحول الى فيلم ضربت شهرته الآفاق ، بتوقيع المخرج الآلماني ” توم تايكور ” ، و قد تُرجمت الرواية الى أكثر من 45 لغة في العالم و منها اللغة العربية ، بترجمة المترجم السوري دكتور ” نبيل الحفار ” و قد صدرت عن ( دار المدى ) .
تدور الأحداث في فرنسا القرن الثامن عشر ، التي يبدأ الكاتب صفحات روايته بوصفها ، حيث الظلام و العفونة و الروائح العطنة و الأوحال و اللصوص و المجرمون و المتشردون . و في مثل هذه الأجواء يولد بطل الرواية ” جان باتيست غرينوي ” الذي مثّل دوره ببراعة الممثل البريطاني ” بن بيشاو ” و الذي شكله لا يشبه شكل ” غرينوي ” الذي صورته لنا الرواية كشخصٍ قبيح جداً .
يولد ” غرينوي ” لأم تبيع السمك ، و قد تعودت على التخلص من أبنائها بعد الولادة ، و هي عادةً تحبل بهم من الزنى . ولكن مولودها هذا ينجو ، حين راح يصرخ في الوحل تحت طاولة السمك ، و بذلك يجلب اليه الإنتباه رغم ضجة السوق ، فتهرب الأم ولكنها ، لم تنجُ من قبضة الناس التي قادتها ــ كما نرى في الفيلم ــ الى المشنقة ( ولكن في الرواية فإنها تُعدم بالمقصلة ، و هي أداةُ إعدامٍ كانت شائعةً في فرنسا ذلك الوقت ) .
ولادة هذا الطفل في الوحل و في وسطٍ تعددت فيه الروائح ، أكسبته موهبة ً فريدة من نوعها لدى البشر ، تمثلت في قدرته النادرة على الشم و تمييز الروائح . و منذ أيامه الأولى في ملجأ الأيتام يُظهر ” غرينوي ” أنه طفلٌ غيرُ عادي ، بنظراته و حركاته و تشممه الحساس جداً للأطعمة و الفواكه و الأغصان و الحيوانات و الأشياء . و تقوّت حاسة الشم لديه عندما باعته ” غايارد ” مديرة الملجأ ، و هو في الثالثة عشرة من عمره ، الى ” غريمال ” دباغ الجلود الفض و القاسي ، و ثمة واقعة اختلف فيها الفيلمُ عن الرواية ، ففي الفيلم تُقتل ” غايارد ” من قِبل لصيّن في طريق عودتها من الدباغ ، ولكن في الرواية فأنها تعمّر طويلاً .
في عمله هذا في دبغ الجلود اعتاد ” غرينوي ” على روائح جديدة هي روائح كريهة ولكنها قوّت حاسة الشم لديه بصورة أشد و أدخلته في عالم حِسّي لم يألفه من قبل و لم يفهم حساسيته أحدٌ سواه ، لكن حساسيته في الشم تدخل مرحلة غير طبيعية لدى البشر عندما يشتمُّ عبير المرأة الساحر من جسد بائعة المشمش الأصفر ، ما يدفعه الى الهَيَمان ، و بالتالي تحمُّل عقاب رب عمله الدباغ ” غريمال ” القاسي ، ولكن ذلك دفعه الى العمل لدى تاجر العطور ” بالديني ” الذي مثّل دوره ” داستن هوفمان ” ، فدخل الى عالمٍ مناقض و مضاد تماماً لدباغة الجلود و رائحتها المُزكمة ليقترب من عبير النساء عبر صناعة العطور . في هذا الوقت كادت تجارة ” بالديني ” أن تكون كاسدة ، فجاء ” غرينوي ” لينقذها و يعيد لـ ” بالديني ” مجده بين تجار العطور ، ولكنْ يحدث تحول في شخصية ” غرينوي ” و ينعطف في تخيلاته منعطفاً حاداً ، و من هنا يبدأ الشد في هذا الفيلم الباهر باخراجه و بموضوعه الغريب على تاريخ الأدب و السينما معاً .
أين يذهب مهووسٌ برائحة أجساد النساء من عطرٍ لا يلتقطه غيره و يميزه من بين كل الروائح العفنة في عصر القرن الثامن عشر الفرنسي و التي تترجم عفونة الحياة التي قادت الى التمرد و الى الثورة الفرنسية ؟ يقرر ” غرينوي ” الإنتقال الى مدينة ” غراس ” التي تُعتبر عاصمة العطور في العالم . و هذه المدينة اشتهرت سياحياً بعد ظهور رواية ( العطر ) و التي كانت مسرحاً لأحداثها ، و خصوصاً بعد ظهور الفيلم ، و في هذه المدينة تتصاعدت أحداث الرواية و من ثم الفيلم الى الذروة و الشد بعد أن تعيش المدينة كابوساً مروّعاً من لغز إختفاء الفتيات اللواتي كانت آخرهن ” لور ريشي ” ، كما إسمها في الرواية ، ولكنها ظهرت في الفيلم باسم ” لورا ” ، و هي إبنة أحد أعيان المدينة و الذي لم تفلح كل وسائله في إنقاذ إبنته ( لعبت دورَها ” راشيل هيرد وود ” ) .
كأن الرواية تطرحُ علينا تساؤلاً عن ماهية حاسة الشم لدى الإنسان ، فيما يثير الفيلم بطرحه البصري التساؤل عن غفلتنا تجاه عطر المرأة و سحرها الغامض الذي تفرزه مسامات جسدها . قد يبدو هذا الكلام مبالغاً فيه ولكنه لا يعبر حدود حقيقة أن لدى المرأة بعضَ سحر غير مرئي ، عطرها أحد أشكاله ، و هذا ما تتناوله رواية ( عطر ) نظرياً و الفيلمُ بصرياً ، و المشهدُ الآخير ُمن الفيلم ـ حيث تتمايل الجموع و تسقط على الأرض ـ يؤكد حقيقة أن الناس في غفلةٍ عن عطر خفي لم تنتبه الى سحره ، ذلك أن ” غرينوي ” عمد قبل إرساله الى الإعدام أن يتعطر بعطره السحري الذي جعله خليطاً من عطور أجساد إثنتي عشرة فتاة .. هو ذروة و خلاصة عمله الغرائبي .
ولكن بقدر ما يمكن إحالة هذه الرواية ، و بالتالي الفيلم ، الى عالم الجريمة ، فإن الإحالة صحيحة الى عالم علم النفس أيضاً ، لفهم دوافع شاب مريض بروائح أجساد النساء ، ما يدفعه الى ارتكاب جرائمه ، خصوصاً و أن هذه الجرائم أحدثت هزةً في المجتمع الفرنسي آنذاك ــ وَفقاً للخيال الروائي ــ ما يعني بدايات الإشارة نحو الإنتباه الى قيمة المرأة في المجتمع أكانت فاعلة في بنائه أم أنها جسدٌ فردوسي لإشباع الغرائز .
الفيلمُ إنتاجٌ آلماني فرنسي إسباني ( 2006 ) و قد تم تصويره في هذه البلدان المُنتجة الثلاثة ، و لغته هي الإنجليزية و طوله ساعتان و 27 دقيقة . و قد بلغت ميزانية إنتاجه نحو 63 مليون دولار فيما وصلت إيراداته الى أكثر من 135 مليوناً .
للرواية ، و من ثم الفيلم ، عنوانٌ جانبي : ( قصة قاتل The Story of a Murderer ) .