رأيتها تقف على الرصيف، بمحاذاة كشك بيع الصحف، في مرآب بغداد الجديدة ،القديم ، تخطوالى الأمام متعثرة، ثم تعود، ثم تتقدم ، ثم تعود..ترتسم الحيرة على وجهها، تتطلع في ساعة يدها بقلق ملحوظ ، لم تكن تنظرالى الوقت، بقدرماهو فعل لا إرادي، لتخفف من وطأة التوتر الذي يعتريها.
إحمرَّ وجهها، وتكاثفت الدموع في عينيها ، ثم ما لبثت أن تدحرجت مثل حبات لؤلؤعلى خدها الأبيض اللجين، جففت الدموع بمنديل ورقي كانت تضغطه بكفها، ثم إرتفع صدرها وهبط بتنهيدة ساخنة، إستجمعت قوتها وتقدمت خطوتين، تلتها خطوتان، ثم جرفها سيل الطلاب المتدافعين أمام باص النقل، نحو الرصيف، في ذلك الصباح التشريني الغائم.
دموع جديدة تتراقص في عينيها وتفيض، مسحتها بكفها وتقدمت خطوتين، ثم تراجعت مسرعة، محبطة، من هول الزحام. فأسندت ظهرها الى جدار الكشك، وراحت تجفف مآقيها من الدموع.
تناولتُ كتاباً كنت أحمله في درج الباص ورميته على المقعد المجاور لي.
أشرتُ لها بيدي ورأسي، تلقفت الإيماءة وهرعت مسرعة نحو الباص، هبطت من مكاني، لأتيح لها مجالاً للصعود.
عبرت الى محلها المحجوز ورفعت عنه الكتاب، تطلعت به لبرهة، ثم ناولتني إياه وشكرتني كثيراً بنبرة إمتنان خجول.
الى جوارها من جهة الباب جلست إمرأة أربعينية بدينة، كانت تراقب بفضول كل شيء، الكتاب والإشارة والمقعد المحجوز،
قالت للفتاة الباكية:
أنتِ محظوظة، يبدو أن السائق قريب لك أو جار، أو معرفة ، مطت العبارة الأخيرة بنبرة،لا تخلو من خبث.
كلا، ردت الفتاة بتذمر، حدسك ليس صحيحاً، صدقتِ بواحدة لا غير، وهي أني محظوظة هذا اليوم.
تململت الأربعينية في جلستها وتنهدت، قالت دون أن يسألها أحد:
أين كُنت والآن إنظروا ما أنا عليه!! ، أنا أشتغل بالوزيرية في معمل الخياطة، مدت رقبتها والتفتت نحوي، كلكم تعرفوه، أنتم السواق، ثم إسترسلت :
لدينا حافلة المعمل، تقلنا الى هناك،مثل الأميرات، لكنها تعطلت منذ أيام، لن أستطيع التأقلم مع هذا الوضع البائس، زحام وفوضى، وإن ظلت معطلة، سيمسح هؤلاء الطلاب والجنود الملاعين مؤخرتي من شدة التدافع، لا يراعون حرمة ولا شيخ، أطرافي كلها تؤلمني.
تزحزحت الفتاة وأبعدت جسدها عن المرأة، تعبيراً عن إستيائها من هذه اللغة والألفاظ.
لا تؤاخذيني، قالت الأربعينية ضاحكة، اللعنة على لساني، لاسلطان لي عليه، عندما أغضب، أنظري، رفعت كُمَّ ثوبها القصير، لتظهر كدمات وردية وبنفسجية على زندها الممتليء، هل يرضي هذا أحداً ؟!
ثم إستدركت قولها : لكنهم طلاب يا عيني ولا بد ان يلحقوا دروسهم ؟
وأنتِ، ألستِ طالبة ؟
بلى، أنا في كلية التربية..
شكرت في سري المرأة السليطة، فقد أهدتني أول معلومة، عن هذه الحسناء، التي إنتشر عطرها في الباص كله،
كانت رقيقة وناعمة، لم يمنحها قدها النحيل ، القدرة على التدافع، يبدو أنها تعاني من التأخير كل يوم، وهذا مادعاها الى البكاء على ما أظن؟
كيف لم أرها قبل اليوم؟ ، ربما قدمت من مدينة أخرى أو حي بعيد؟!
وماذا تتعلمون في هذه الكلية؟ سألت المرأة البدينة..
حدقت الفتاة بي مستنكرة، وكأنها تنشد مساعدتي لإيقاف هذا السيل من الثرثرة والفضول، في مطلع الصباح.
أجبتُ عنها: إنهم يتعلمون اللغات والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، و…
قاطعتني بصوتٍ حاد: وما أدراك أنت؟ هل دخلت الكلية ؟ قبل أن تصبح سائق كوستر* ؟!
صفعني السؤال وأثار حزني وشجوني، كنت سأكون طالباً مثل هؤلاء، وأرتدي الزي الموحد الأنيق وأجلس بينهم، بدل جلوسي خلف المقود، أطوف في شوارع المدينة، أجيراً في باص للنقل. ولكن…
كلا يا سيدتي، لم أدخل الجامعة، قلتها بنبرة حزينة، أثارت إنتباه الفتاة.
هل صحيح ماقاله السائق؟ صاحت الأربعينية !
أجابت الفتاة بإمتعاض ملحوظ: أجل كل ماذكره، صحيح..
ظلت المرأة على امتداد الطريق تثرثر دون إنقطاع، بأحاديث لاتدور حول شيء معين، وفجأة صاحت:
ها أنا قد وصلت، أنزلني في ذلك التقاطع، ولاتفعل مثل لئام السائقين، وتقذفني بعيداً عنه، فأطرافي كما ترى، كلها تؤلمني !
أوقفتُ الباص في المحل المناسب لها تماماً، إرتسم فرح رضى طفولي، على وجهها، فدوة لعينيك، قالت،
تزحزحت عن المقعد بخفة، وفي غضون ثوان أصبحت على الرصيف، وقبل أن توصد الباب، طبعت فوق أصابعها قبلة من شفاهها المطلية بالأحمر الصارخ، وأرسلتها لي في الهواء، ثم راحت تجرجر عجيزتها مسرعة، ليبتلعها منعطف الشارع، المؤدي الى معمل الخياطة..
أطبقت الفتاة كفها على فمها، متعجبة ، تطلعت نحوي، وتطلعتُ نحوها، ثم إنفجرنا بضحك مسموع.
نزل الركاب في باب المعظم، ودعتني الفتاة شاكرة، تابعتها وهي تشق طريقها مسرعة، بين حشود الطلاب والعمال والجنود، لعلها تصل في الوقت المحدد، لقاعة الدرس.
داهمني شعور غريب، يشبه إحساس الفقد والضياع، تلمست المقعد الخالِ، كان ينبض بالحياة، ويعبق بالأريج، لقد عاد جماداً موحشاً، تمنيت أن ترجع اللحظات، لأسمع صدى ضحكاتها، من جديد !
عدت في اليوم التالي، بذات الوقت الى نفس المكان، رميت الكتاب على المقعد، شملت المرآب كله بنظرة سريعة،
بحثت عنها، قبل أن أفتح الأبواب، خشيت أن لا تأتي، أو تتأخر، أو يكون موعد دوامها، غير موعد الأمس !!
لكنها سرعان ما بزغت كالنجمة، من خلف كشك بيع الصحف، جاءت تتهادى بمشيةٍ ملكيةٍ واثقة، فتحت باب الباص الأمامي، صعدت، يسبقها عطرها،
رفعت الكتاب وتطلعت به لبرهة، تبسمت وقالت لي بنبرة ودٍ آمرة :
سِر، ما الذي تنتظره؟ فالباص غصَّ بالركاب، هيا، سنتأخر.
نسمات صباحية عذبة، أنعشت روحي، عقب ليلة إنتظار مؤرق، كنت مفتوناً بحضورها وألقها، كانت تضع وردة بيضاء فوق شعرها المسدل على كتفها و تزين عنقها بسلسلة ذهبية رفيعة، يتدلى منها قرص دائري نقش عليه حرف السين.
خمنت بأن يكون إسمها شذى أو شهد أو سهى.!
رحت أقود الباص كالمسحور، أصبح لكل ما حولي طعم أخر، شكلاً آخر، بدت الشوارع أجمل والأشجار أكثر نضارة وحدائق الزيونة وشارع فلسطين، تتباهى بزهورها وورودها وأسيجتها الأنيقة الواطئة.
تناولت شريط تسجيل من حقيبة يدها وإستدارت نحوي وقالت: هل تقايض؟
فآجأني السؤال وعذوبة صوتها ورِقّته..
تبسمت وقلت: بماذا ؟!
ضحكت وأشارت بيدها الى الكتاب وكان ( مجموعة قصصية لإنطوان تشيخوف) ،بهذا !
وهل تعرفين ما فيه، أو من هو مؤلفه؟
كلا، لا أعرف..! هل تقايض أم لا؟!
سأقايض بكل تأكيد، قلت..
كدت أطير فرحاً، إذ لم يطراً على بالي بأن الأمور ستسير على هذا النحو السريع من النجاج ، فلم أكن أحلم بأكثرمن إبتسامة ودٍ، وتحية صباح !
شريط أغاني ومنها هي ؟!!
يا لسعادتي، سأتعرف من الموسيقى على ذائقتها وبعض طباعها، وستتعرف من الكتاب،على شيء مني، ربما ستعرف بإني إنسانً متعلم، رمته الظروف في مهاوِي الحياة، وربما ستتذكر ملامحي، بين سطور حكايات تشيخوف!
نزل الركاب وهي بينهم، لم تكن مسرعة مثل الأمس، ودّعتني بإبتسامة وتلويحة من كفها، ثم راحت تتهادى، بخطواتها الملكية الواثقة، صوب كلية الآداب.
دسست الشريط بسرعة في جهاز التسجيل، صدح الصوت الملائكي من الجهاز ( خذني حبيبي ع الهنا، إنسى اللي كان وأبتدي، خليني إخلق يا أنا، منك وليك إهتدي).
أحسست بالفرح، إنها مثلي، تعشق ماجدة الرومي، هذه أول إشارة تقودنا نحو التقارب والإنسجام.
قضيت نهاري سارحاً، محلقاً بأحلامٍ وعوالم، أخذتني بعيداً عن كل ما حولي.
لم يواتني النوم تلك الليلة التي طالت، وكأنها تواطأَت مع الصباح ضدي، لا أعلم عدد المرات التي سمعت فيها أغاني الشريط ، كنت أعيدها المرة تلو المرة.
وصلت في الصباح للمرآب المحتشد بالطلاب والعمال والجنود والباعة والمستطرقين والمتسولين، لم أعثر عليها بينهم، فتح الركاب أبواب الباص وراحوا يتدافعون الى الداخل، إنتظرت لدقائق، لعلها تبزغ من جديد كالنجمة، لكنها لم تأتِ.
أصبح المكان قفرا موحشاً،في غيابها، رأيت المرأة الأربعينية البدينة، تقف في إنتظار باص معمل الخياطة، هرعت إليها وسألتها بصوت باديء التأثر وحزين.
هل رأيتِ شذى، أو شهد أو سهى ؟؟
رمقتني بنظرة غضب وإستهجان، أظنها لم تتذكرني !! هربت منها ، تحسباً لما قد يصدر من حماقاتها، توالت الأيام ولم تأتِ، كنت أبحث عنها كل صباح، اتابع السائرين على الأرصفة والمنتظرين قرب كشك بيع الصحف، بحثت في وجوه الطلاب المتدافعين على ابواب الحافلات، والسائرين الى المدارس والمعاهد والجامعات، لكن دون جدوى، لم أعثر على نجمتي بينهم.
وفي الإسبوع الرابع فآجأني صوتها كالسحر، كأنه قادم من عالمٍ أخر، كانت تقف أمام نافذة الباص، وفي إنتظارها قرب الرصيف سيارة أنيقة، يجلس فيها شاب بمقتبل العمر.
هذا عصام خطيبي، مهندس معمار، حدثته عنك، نادته: عصام يا عصام ، اطل بوجهه الوسيم، تبسم لي وحياني بيده.
هذه لك، دفعت علبة فيها أشرطة تسجيل، تحمل صوراً لماجدة الرومي..
شكراً لك، أحببت تشيخوف وإشتريت كل قصصه، وقبل أن تتركني وترحل قالت:
صحيح، ما إسمك إن أردنا السؤال عنك؟
علاء، إسمي علاء..
وأنتِ؟؟ ردت بصوتها العذب الرقيق..
شذى…