فاطمة الدوسري “بنت الريف”
القصة القصيرة جدا بدأت في تثبيت هويتها الخاصة، كنوع أدبي ينمو بسرعة كبيرة ويضع له مكانة خاصة بين الأجناس الأخرى، ولعل الرمزية والتكثيف من أهم مقومات القصة القصيرة جدًا، وتظهر فيها البلاغة اللغوية وقدرة الكاتب على المحافظة على متانة النص والبناء القصصي، وهي وسيلة فعاله للتواصل مع القراءة وإيصال الرسائل بشكل مباشر وأكثر فاعلية، وتعبر بصورة مختزلة عن الهموم الإنسانية والعلاقات المتعددة بين البشر.
في المجموعة القصية للكاتب حسن البطران “ماريا وربع من الدائرة” استوقفني العنوان ورمزته العالية للبحث في دلالاته التي ستقودني إلى فحوى النصوص المكتوبة.
ماريا اسم امرأة معتق بالتاريخ فهي جزء من دائرة الرجل التي لا تكتمل إلا بوجود أربع في إيحاء لتعدد الزوجات، وهذا دلالة على هيمنة الرجل على المشهد، ووجود المرأة كإسقاطات وظلال حتى وإن خارت قواه في خضم علاقته بنصفه الآخر الذي يبحث عن اكتماله في وجوه أخرى، هذه العلاقة التي تجسد الصراع الكوني بين المرأة والرجل على امتداد الزمن واحتدام المشاعر ومفارقات يربطها خيط الرفيع.
ربما جاءت المرأة دلالة الرمزية على العراقيل والعقبات التي تفرض سط لتغيير مسار حياة شخص آخر كما ورد في نص من الحزمة الثالثة بعنوان شوكة أخرى
“أزاح الشوك عن طريقه.. مشى نحو الشاطئ.. فرأى سمكة ذات ألوان جذابة، مسكها … أراد الرحيل، وأصابته شوكة في قدمه.. نزف.. وعاء من طريق غير طريقة”.
وتجاوزًا إلى نصوص أخرى تعبر عما يدور في خلد الكاتب من الصراع اليومي والعلاقات والتجارب الإنسانية في نصوص سردية إيقاعها سريع، اعتمدت على الأفعال والأسماء في بداية كل جملة قصيرة. ففي نص “عقار أخضر” من الحزمة العاشرة
“أعلن عن الوباء العالمي، ظل مختفيا في القرية، أعفى عنه، ولم تغزوه “كورونا” ، فتحت المساجد فكان أول المصلين”
في المجموعة تكثيف في المعاني ممتدة إلى البناء القصص مع رمزية عميقة في تحدي مباشر للقارئ لتحريك عقله لفك الرموز وتأويلها.
فالكاتب بين سلطة الموقف وسيطرة اللحظة المشهدية ومحاولة تجاوز أيدولوجية الشخصية، وسيطرة اللا وعي بالإضافة إلى الخوف من المجهول وأيهما أكثر تأثيرا على المشهدية العامة للقص.. هل تفوقت سلطة الجسد البيولوجية، أم السيكولوجية رغم محاولة الكاتب إيجاد توازن عندما يصطدم بقوانين المجتمع.
في نص “علاقة من خيط رفيع” في الحزمة التاسعة
“قرع جرس انتهاء الاختبار، لم ينتهي “رائد”من الإجابة على كامل الأسئلة، طمأنه أستاذه بأنه تجاوز المادة بامتياز” .. ما نوع العلاقة التي تربط رائد بالأستاذ حتى تعطيه هذا الحق في تجاوز أخلاقيات المهنة ودوره كمعلم ومربي، هل هو قريب أو هناك على دلالات أخرى.
وفي نص “بورصة” من الحزمة العاشرة أجبر على الدراسة ركل الكرسي برجله اليسرى بعد ثلاث سنوات من هجرانه المدرسة، سجل ثلاثة اهداف برجل يسرى في آخر مباراة، تغنت البنات باسمه، ارتفعت أسهمه في بورصة الكرة، أخوه الدكتور الجامعي لم يستطيع شراء سيارة”
في هذا النص الواضح الملمح نجد أن هناك فرصة قد تأتي بمجرد أن نخرج مما لا نهواه وأن يزيح ما لا نهواه خلفنا لنبحث عن شغفنا وقدرتنا على معايشة واقع جديد، والنهوض في مناطق راحة لنا، وأن لا نكبل أنفسنا بقيود تحرمنا من مقدرات الحياة.
بين السهل والممتع تقف النصوص السرية للكاتب بعضها قصير المدى ويمكن الوصول إليه من مجرد تفكيك الماحه، والبعض يحتاج إلى مسافة طويلة من البحث والاستقصاء وقد لا يصل القارئ إلى مراده في معرفة المقصود بسهولة.
في نص “اتساع ” من الحزمة الرابعة “حبي لها يتسع كاتساع صحراء، تبقى هي تبحث عن تجاويف ضيقة، وسد أخرى، ينتابني القلق، وتظل هي .. تبتسم.”
رمزية تضاد بين رؤيته المتسعة بلا حدود ورؤيتها التي تبحث عن تفاصيل التفاصيل وتثير قلقة من عثور ها على شيء ربما تنهي هذه العلاقة.
حسن البطران في مجموعته جسد التحولات المشاعرية والمفارقات من خلال نصوص قصيرة جدا، بإيجاز وحرفة، حرص ألا تفقد معناها وتحفظ بقوة تأثيرها على المتلقى، ويستحث القارئ للبحث خلف المعاني، ليصل إلى الفكرة وبلورتها في إطاره الزماني والمكاني.
كما أنه استند بشكل واضح ومباشر على التكثيف الدلالي والرمز ية حتى يصل القارئ إلى تفسير منطقي لهذه الدلالات ، والتعمق في ماهية النص كما ذكرت سلفا، والنصوص التي صيغت لتمرير المشكلة دون كشف واضح، لقراءة علاقات إنسانية خاضعة للمزاجية من شخوصها، تلميح يتيح للقارئ المثابر السياحة في أبعاده التخيلية، والتفكير في المؤشرات الدالة والكشف عن الرمزية فيها.
فالخوض في الحالات الإنسانية وسيكلرجية البشر، يتطلب شجاعة كبيرة، وتمكن من قيادة حركة السرد بكل أبعاده داخل النص، لإيصاله إلى محطات الدهشة في ذهن القارئ وقد وصل حسن البطران إلى أغلب هذه المحطات.