افتتاحية العدد 16
بقلم إخلاص فرنسيس
آذار من جديد، شهرٌ يُقال إنه للمرأة، لكنه لا يحمل لها سوى المرآة- مرآة الواقع التي تعكس وجوهًا شاحبة، وأجسادًا منهكة من ثقل الفاجعة، وأصواتًا لم تجد إلا الصمت مأوى لها. أحاول في كل عدد أن أعيد تشكيل الكلمات، لأجدني مضطرة إلى إعادة صياغة أفكاري بطريقة أكثر واقعية، أبحث عن كلمة مسؤولة، نصل سيف الحق، غضبها قوة، جرأتها جرحاً يوقظ سبات الضمائر والقلوب.
هذا الشهر، حيث يُحتفى بالمرأة والأم والطفل، يوقظ في داخلي أسئلة متجددة، كالسهم تخترق روحي، فتبتلع يقيني في دهاليزها المتعرجة. هل الاحتفاء اعترافٌ بوجودهن، أم تعويضٌ خجول عن تهشيم كيانهن من ناحية أخرى؟ أحاول أن أقنع نفسي بأن هذا العام سيكون مختلفًا، لكن ليس كل ما تشتهي السفن تأتي به الرياح. أتى عكس ما أرجو، متحوِّلًا، متبدّلًا. في زمنٍ انقلبت فيه المعايير، باتت الإنسانية جرمًا، والموت قانونًا، والمكافأة لونًا أحمر يكسو كل شيء. ماذا فعلنا للمرأة في شهرها الذي يحتفي به العالم؟ وكيف كرمنا الأم التي حملت استمرارية النسل البشري؟ ماذا نقول لأطفال المستقبل، الذين استودعتهم الحروب إلى مدن الأحزان وكهوف العصور الوسطى من الجهل الأعمى؟ سنين متتالية، صادف فيها شهر آذار أكثر الأشهر دموية. تنطلق أناشيد الموت، فتهرب الطفولة مذعورة أمامه. لم تعد ذاكرتنا قادرة على مقاومة لذعات اللاعدل واللاسلام. آذار أصبح مرآةً تذكّرنا بالمرأة المنفية في غياهب الشقاء والوحشية، وبالطفولة التي تحولت إلى كيانٍ خارج عن الأخلاق والتاريخ والجغرافيا، ترزح تحت سياط التحدي.
المرأة تحمل قلبها بين يديها، تمضغ الحزن، بخور يُرفع في وجه الحزن وفي وجه آلة القتل.
في كل زاوية من هذا الوطن الممتد، هناك امرأة تنام فوق طريقٍ موحل، يلتف حول جسدها إرث البشرية من الخطيئة والعناد. تتقاطع فوقها سيوف القدر، ويُترك جسدها كصفحةٍ مفتوحة لقرّاء الألم. الملح يتقد تحت أظافرها، كأنها امتدادٌ لصحراء عطشى، فيما يغفو طفلها على صدرها المتعب، غير مدركٍ أن العتمة التي تحيط به ليست إلا انعكاسًا لوجعٍ أطول في ذاكرة الأمهات. نساء أردن أن ينفضن رماد البارود عن أجسادهن، والشظايا المغروسة في قلوبهن، لكنهن أصبحن وليمةً مفتوحةً للوحوش.
تفتح يدها، ترمي لؤلؤها للأسماك المفترسة، فتبتلعها الحياة حيّةً وميتةً على حد سواء. طفلها، على الضفة الأخرى من الألم، تلهو به الريح، تسكر الشمس بجسده، يرقب السماوات مترقبًا الغيم فوق سياج الأسلاك الشائكة، متطايرًا كعصفورٍ فقد وجهته، يمعن النظر في عيون قاتله.
هي أنثى أرادت أن تتزين بقلادة حمراء، وهو طفل أراد أن يقفز فوق القمم، كالأيائل على مرأى الحشود، في انتظار طقوس الذبح المقدس. في محفلٍ أبدي، تستقي من النار شعلتها المقدسة، وتُرمّم العيون الفانية بقبسٍ من وهجها الأخير. فصل الموت طويلٌ هذا العام، أطول مما ظنّت، إذ كُسرت طفولتها في جسد طفلها، فانحنى الربيع عاجزًا، متهدّمًا تحت وطأة الفقد. لا معنى للحياة بعد الآن، فالوجود نفسه منفيّ وسط صيحات الأمهات. وطفلٌ يتعثّر في ظلٍّ لا ينتمي إليه.
أعود إلى قلمي، لكنه يرمقني هذه المرة بعيون امرأة تحمل العالم بين ضلوعها، يسألني:
بأي حبر أمسح دمعةً تحجّرت في مقلتيها قبل أن يُسمح لها بالدفن؟
بأي لون أكتب وجع أمٍ صار الفقد زينتها، تحمله كما يحمل الشجر ثمار الفصول؟ بأي كلماتٍ أردم هوة الدم التي تسبح فيها، بين الحياة والموت، بين الصراخ والصمت، بين أن تكون ظلًا أو أن تُمحى تمامًا من سجل الوجود؟
لا أبحث عن لغةٍ تصف المرأة، بل عن لغة تنصفها. لا أبحث عن كلماتٍ تعيد تدوير الحكايات القديمة، بل عن كلماتٍ تستطيع أن تشق لها دربًا نحو الحياة، بعيدًا عن ظلال التهميش والنسيان.
أبحث عن مدادٍ لا يجف أمام صبرها، عن حرفٍ يعيد رسم صورتها المحطمة، عن كلمةٍ تمنحها صوتًا لا يرتجف تحت ثقل الفاجعة.
لكن كيف أكتب، وأنا أرى كيانها يحاكم كجريمة، وحريتها تُختصر في استثناء؟ كيف أختار كلماتي، وأنا أشهد العالم يعيد تدوير القيود في أشكالٍ جديدة، حيث تلمع العيون أكثر تحت أشعة شمسٍ لا تشرق إلا لتفضح حجم الفقد الذي لا ينطفئ مع الليل؟ في عالمٍ مضطرب، تفنن فيه الإنسان في القتل، وابتكر طرقًا للموت، وسكر بدم أخيه الإنسان، أصبح الأمل ترفًا، والحرية تهمةً لا تُغتفر. حروفنا، التي كان ينبغي أن تكون شهادةً للمرأة، صارت صريعةً قبل أن تنطق بالحقيقة. احترقت قبل أن تُقال، تحولت إلى رمادٍ يتطاير في الريح، لا يترك خلفه سوى علامات تعجبٍ مشتعلة، تسألنا بلا إجابة:
كيف وصلنا إلى هنا؟
كيف صار صمت المرأة أكثر صخبًا من صراخها؟
وأي قلم لا يزال يملك الجرأة ليكتب، حين تكون الحروف نفسها هي الضحية؟
إن المعركة الحقيقية ليست مع العالم، بل مع المرآة التي تفضحنا حين نجرؤ على النظر إليها دون أقنعة.
بالرغم من أن هذه المقدمة تحمل طابعًا متشائمًا، إلا أن ذلك قد يكون انعكاسًا لما نمر به من أحداث دولية وأزمات محلية، وهي ليست بخافية على أي متابع عربي. ومع ذلك، تحاول مجلة غرفة 19، رغم كل هذه الظروف المحيطة، أن تحمل بارقة أمل وتفاؤل، عبر تسليط الضوء على دور المرأة القيّم في مجتمعاتنا.
لقد أتاحت لي الظروف الراهنة متابعة مهرجان الشارقة، في مجتمع يسعى للبحث عن جذوره الثقافية وسط عالم يموج بالهجرات التي لعب فيها البعد الثقافي والاجتماعي والسياسي دورًا لا يمكن إغفاله.
كما أن تزامن بعض الاحتفالات المتقاربة زمنيًا، مثل اليوم العالمي للمرأة وعيد الأم، قد أضفى بُعدًا خاصًا على هذا العدد من المجلة، حيث جاء لقاءنا مع الأستاذة فاطمة المغني، إحدى السيدات المهتمات بصون التراث والمحافظة عليه، كأحد الموضوعات الهامة التي نسلط الضوء عليها.من جهة أخرى، أعادت إدارة المجلة النظر في أحد الفنون التعبيرية التي تعكس قضايا المجتمع بفكرٍ ناقد ولمسة فنية ساخرة، وهو فن الكاريكاتير، الذي يضيء لنا صفحات المجلة بابتسامة، من خلال لقاء مع أحد أبرز فناني الكاريكاتير في مصر الفنان نبيل صادق، رغم أن هذا الفن بدأ نجمه بالخفتان، حتى كاد أن ينقرض تمامًا من المجلات والصحف في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يزال يحمل في طياته قضايا المجتمع في إطار فكاهي ترفيهي نحتاجه بشدة في هذه المرحلة.
إننا اليوم في فترة تتطلب جهودًا مكثفة من المهتمين بقضية الأمية البصرية، التي شوهتها مناظر الحروب والدمار، في محاولة لاستبدالها بثقافة بصرية تحمل قيم الجمال والإنسانية. فكما أن الكلمة أداة للتغيير، كذلك الصورة، خاصة عندما تعكس واقعًا وتسهم في بناء وعي جديد.
وبهذه المناسبة، نود أن نقول لكل أم عربية: كل عام وأنتِ بخير، رمزًا للعطاء والنور في دروب الحياة.
مبااااارك
لكم تحياتي على هذا الإصدار الجديد.
والتقدير للشاعرة الرقيقة : إخلاص فرنسيس على هذا الجهد ؛ ليخرج هذا الإصدار إلى النور بهذا البريق الجميل .
والشكر موصول لكل أعضاء الهيئة التحريرية والإدارية .
دمتم مبدعين .
كل التحايا والتقدير لكم استاذ محمد
مبارك العدد الجديد
شكرا لكم على مروركم
مبارك العدد الجديد..تمنيتنا بالتوفيق
تحياتي والتقدير