وفيق صفوت مختار
كاتب وباحث مصري
? الشَّاعرة الأمريكيَّة التي يعتبرُها النُقَّاد الآن أعظم شاعرة ظهرت في العالم على مدار تاريخه. كان شِعْرُها انعكاسًا لحياة العُزلة المُستمرة التي عاشتها طوعًا واختيارًا, وقد تميَّزت مُعظم قصائدها بالأحاسيس الجديدة المُثيرة, والرُّؤى ذات الدَّلالات البعيدة, والتَّسابيح الصُّوفيِّة المُنطلقة في عالم الرَّوح.
عرف العالم شعرها بعد وفاتها, فهي لم تنشُر في حياتها سوى سبع قصائد فقط !! وكان للشَّاعرة أثرها الواضح على الشُّعراء في أمريكا في مجال التَّجريب والتَّجديد, في الشَّكل والمضمُون على حدٍّ سواء.
وُلدت «إميلي إليزابيث ديكنسون» Emily Elizabeth Dickinson في العاشر من شهر ديسمبر عام 1830م، بمدينة «أمهرست» Amherst بولاية «ماسا تشوستس» Massachusetts الأمريكيَّة.
كانت عائلتها من عائلات نيو إنجلاند التي نالت حظًّا وافرًا من التَّعليم والثَّقافة والتَّشرُّب بروح الفكر والفنّ. عاشت شاعرتنا حياة مُنعزلة تمامًا لدرجة أنَّها لزمت عُقْر دارها مُعظم فترات حياتها, فابتداءً من عام 1856م، وقد بلغت السَّادسة والعشرين من عُمْرها لم تخرج من بيتها إطلاقًا, وهو البيت الذي وُلدت وماتت فيه, وهو السِّجن الاختياري أيضًا الذي اختارته طوعًا وبمحض إرادتها, ويُقال أنَّ أحدًا لم يرها بعد ذلك حتى من أهل البيت لأنَّها لم تكن تخرُّج من غُرفتها إلَّا نادرًا.
«إميلي» لم تتزوَّج طوال حياتها, ويُؤكِّد البعض أنَّها فشلت مرَّتين في علاقتها العاطفيَّة وإنَّها آثرت بعد ذلك حياة الزُّهد والبُعد عن النَّاس, وعاشت مُنطوية داخل بيتها.
لم تكن تنوي كتابة الشِّعر بطريقةٍ مُتعمِّدةٍ, أو حتى الكتابة الأدبيَّة من أي نوع, لكنَّها بدأت بكتابة خطَّابات إلى جميع أصدقائها ومعارفها. حيث كانت تقضي أيامًا بطُولها في كتابة هذه الخطابات التي تُعبِّر فيها عن مكنُونات نفسُها وعن أحاسيسها نحو الآخرين. أمَّا التي أعجبت بقصائدها وحثَّتها على نشرها فهي صديقتُها الرِّوائيَّة الأمريكيَّة «هيلين جاكسون» Helen Jackson (1830- 1885م)، ولكن دُون جدوى, فقد رفضت «إميلي» أن تنشُّر شيئًا مخافة أنْ يتعرَّف النَّاس على همومها وعالمها الخاص. لذا.. لم يعلم أحد بشِعْرها إلَّا بعد وفاتها, فلم تنشُر في حياتها إلَّا سبع قصائد بدُون رضاها التَّام.
ظهر أوَّل مُجلَّد لـــــــ «إميلي» عام 1890م بعُنْوان: «قصائد إميلي ديكنسون »، وبمُقدَّمةٍ من صديق الأسرة والكاتب الذي جمع القصائد وقام بتنسيقها « توماس هيجنستون ». ومن الطَّريف أنَّ هذا الكاتب كان قد نصحها في بداية حياتها الأدبيَّة بعدم النَّشر لما رآه فيها من خرقٍ لتقاليد القصيدة في ذلك العصر.
كانت الرُّؤى العفويَّة المُنطلقة التي احتوت عليها القصائد مُتناقضة تمامًا مع الأسلوب الشِّعري المُنمَّق المُفتعل الذي ساد أشعار تلك الفترة, لكن النُقَّاد احتفلوا بالدِّيوان عندما لمسوا أصالته التي تجمع بين النَّقاء الوجداني والصَّفاء الفكري وبين التَّعبير التِّلقائي البعيد عن الرُّوح التَّطهيريَّة التي سادت مُعتقدات أهالي نيو إنجلاند. وقد لاقى الدِّيوان نجاحًا كبيرًا لدرجة أنَّه طبع ست مرَّات في فترةٍ لا تزيد على أسابيع قليلة. وفي عام 1891م صدر الجُزء الثَّاني من أشعارها, أمَّا في عام 1893م فقد نُشرت خطابات «إميلي» وهي نفس المجمُوعة التي نُشرت عام 1931م مزيدة ومُنقحة, وفي نفس العام صدر الجزء الثَّالث من أشعارها، تلاه الجُزء الرَّابع في عام 1914م.
وفي عام 1924م أصبحت «إميلي ديكنسون» شخصيَّة مُهمَّة للغايَّة في مجال الأدب العالمي, أي بعد ( 38 ) سنة من وفاتها. وذلك عندما صدرت قصائدُها الكاملة في كتابٍ بعنوان: «حياة وخطابات إميلي ديكنسون». وفي نفس العام صدرت الطَّبعة البريطانيَّة لأشعارها المُختارة بمُقدَّمةٍ للنَّاقد «كونراد إيكن» Conrad Ecken. بعد ذلك زاد الاهتمام والحماس لشعرها كُلّ الحُدود, لدرجة أنَّ الشَّاعر «مارتن أرمسترونج» Martin Armstrong، يقول : «إنَّ كونراد إيكن أوضح أنَّه رُبَّما كان شعر إميلي ديكنسون أفضل شعر كتبته امرأة في اللُّغة الانجليزيَّة, وأنا أحتج على إيكن لاستعماله كلمة رُبَّما هذه التي تُوحي ببعض الشَّك».
وفي عام 1929م صدرت مجمُوعة جديدة بعُنوان: «قصائد أُخرى لإميلي ديكنسون» واحتوت على ست وسبعين قصيدة. أمَّا في عام 1935م فقد صدر مُجلَّد جديد بعنوان : «قصائد غير منشُورة لإميلي ديكنسون».
لقد تميَّزت قصائدُها بعالمٍ من صنع خيالها, عالمٌ يبحث وراء الحقيقة والجمال وغيرهُما من المُطْلَقَات التي كانت تحْلُو لها السِّياحة بينها بعيدًا عن ضُغُوط الحياة المادِّيَّة. كانت أفكارها وأحاسيسها تبدُو وكأنَّها قادمة من عالم آخر زاخرة بالرُّؤى المُثيرة, والشَّطحات الصُّوفيَّة, بل أكَّدت أنَّه لا فرق بين المُجرَّد والمُجسَّد, فهذه كُلَّها تقسيمات مُفتعلة من صنع البشر, ولذلك فإن «إميلي» لا تنظُّر إلى الجمال والحُبّ والعدالة على أنَّها تجريدات, بل كيانات شاهقة لها وزنُها وكثافتُها وأبعادُها التي يصعب على شُعراء كثيرين استخدامها الاستخدام الأمثل والسَّليم.
كانت أبيَّاتها مشحُونة ومُتفجِّرة بالمعاني المُتعدِّدة والمُختلفة والمُتناقضة في الوقت نفسُه. وإذا كانت النَّغمة الرَّئيسة هي الحُبّ، وهُو ليس بالحُبِّ التَّقليدي بين البشر كما نجد في قصائد الآخرين, إنَّه تلك العاطفة الأزليَّة والأبديَّة التي تشكل وحدة الكون وبدُونها لا تقوم له قائمة. لذلك كان الجانب الميتافيزيقي مُتغلبًا على ما عداه من عناصر أُخرى في القصائد . فقد آمنت الشَّاعرة بأنَّ كُلّ شيء موجُود في هذه الحياة إنَّما يُوجد أصلًا في عالم الفكر والرَّوح.
ويقُول النُقَّاد إنَّ «إميلي» حملت لواء الرُّومانسيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر بعد أنْ أوشكت على الاندثار. وهي نزعة تسري في مُعظم قصائدها لدرجة أنَّها تجد منتهي السَّعادة في العُزلة عن الآخرين، ثُمَّ العُزلة الكُبرى في الموت كما تقُول في قصيدة: «الرَّوح تختار مُجتمعها»، التي تتكلَّم فيها عن الموت بمنتهى العُذُوبة والرِّقَّة:
لأنَّني لا أستطيع أن أقف للموت
فقد تفضل هُو بالوُقُوف لي.
لكنَّها لم تُنكر ذاتُها في أشعارها, بل كانت تعتقد أنَّه طالما أنَّ شخصها جُزء لا يتجزَّأ من الكون فهي ترى الكون من خلاله, بل إنَّه كون في حدِّ ذاته، فتقُول:
فخُورة أنا بقلبي الكسير
طالما أنَّني لم أكسره
فخُورة أنا بالألم الذي يعصرني
طالما أنَّني لم أصنعه
فخورة أنا بليالي السَّهر الطَّويلة
فقد تحمَّلتها بدُون أقمار
تلك هي عظمة الله داخلي
حتى لو سُمِّيت ذُلًا !!
لقد اعتبر النَّاقد والشَّاعر الأمريكي «ألن تيت» Allen Tate (1899- 1979م) هذه القصيدة أروع القصائد في اللُّغة الانجليزيَّة شكلًا ومضمونًا. ولا شك فإنَّ أروع قصائد «إميلي» هي التي تحتوي على المواقف الدِّراميَّة ذات الدَّلالات السيكُولُوجيَّة النَّابعة من أعماق النَّفس البشريَّة. قالت الشَّاعرة في أحد خطاباتها : «إنَّ الغناء في الشِّعر خير وسيلة للهُرُوب من أحاسيس الخوف التي تطارد الإنسان أينما حل». أيّ أنَّ الوظيفة السيكُولُوجيَّة للشِّعر تتمثَّل في التَّنفيس, بل تخلُق كيانًا موضُوعيًّا للقصيدة.
لقد تباري النُقَّاد في الإشادة بقيمة أشعارها، فمنهُم مَنْ قال إنَّها الشَّاعر والرَّسَّام الإنجليزي «وليم بليك» William Blake (1757- 1827م) ولكنَّه امرأة هذه المرَّة. وآخر يقُول: إنها الشَّاعر الأمريكي «وولت ويتمان» Walt Whitman (1819- 1892م) ولكنَّه زاخر بالحكم والأمثال. وثالث يقول: إنَّها أُسطورة نيو إنجلاند الغامضة. ورابع يعتبرُها من أعظم شاعرات أمريكا, وخامس يعتبرُها أعظم شاعرة ظهرت بعد الشَّاعرة الإغريقيَّة «سافو» Savo التي ماتت في أوائل القرن السَّادس قبل الميلاد .
مرضت الشَّاعرة بمرضٍ أصابها في الكُلية ظلَّت تُعاني منه، حتى توفيت في الخامس عشر من شهر مايُو عام 1886م ، عن عُمْر يُناهز (56 ) عامًا. r