منذ حداثتي وقصص “جنيّة عرّاضة” طَبَقُ سهرات السَمَر في بلدتي – و”عرّاضة”، هي تلّة عريضة مقابلة للبلدة في قاطع النهر – تتوالى الأجيال، ولا تنتهي قصص تلك الجنيّة، التي قضّت مضاجع أجدادنا، وأقلقت جدّاتنا. أخافت الشيب منهم، وأبعدت الكرى عن عيون شبابهم. وبعد قرن ونيّف على مرورها في “قاطع” النهر، ما زالت أخبارها تلهب المشاعر.
كان تشرين قد نشرَ أبكار غيومه في سماء بلدتنا، وأخذ الصقيع طريقه إلى “سطيحات” المنازل، فأقفرت، وتركها روّاد السَمَر. كان القمر يُحاول استراق النظر إلى النوافذ، وبُرَك المياه، في إحدى الليالي التشرينيّة، إلّا أن غيوم الخريف كانت له بالمرصاد. وما هي إلّا ساعات حتّى طرقت آذان سكّان القرية أصوات أهازيج وزغاريد، مصدرها “مغارة عرّاضة”، تلك المغارة القابعة على طرفِ “العريض”، مقابل منازل “ورا الحارة”. شقّت تلك الأصوات شقوق الأبواب والنوافذ، فارتجفت منها القلوب، واشرأبّت الأعناق، وطرحت الحواجب فوق العيون ألف علامة استفهام! سَرَت فوق الشفاه تلك الليلة، ألف قصّة وقصّة عن “جنيّة”، تركت محفل الجان، لتلتحق بإنسيّ سرق منها الإدراك والقلب، فاستوطنت تلك المغارة استعدادًا ليوم الزفاف.
في اليوم التالي، أعلن صوت جرس الكنيسة بنبضاته الحزينة وفاة صبيّة من القرية المجاورة، كان عريسها قد هرب مع امرأة غيرها صبيحة يوم زفافهما، فتاهت في الحقول وقد فارقتها العاقلة لشدّة الصدمة. وتناقلت الألسن، في الأيام التالية، أن مكاريًا كان غاديًا مع الفجر على “درب العَين”، لمَح جسدًا متدليًا من السنديانة الدهرية، الشاهدة على قصة حبّ العروس الشاردة. وما إن أكملت أشعة الشمس تبديد ما تبقّى من ظلام، حتّى تبيّن للمكاري أنها عروس حوّلت فستان زفافها حبلًا لمشنقة.