
حين بدأت قراءة “جارٍ البحث” لنهلة العربي، لم أكن مهيأة لرحلة داخل عقل قاتل… إنما داخل صدعٍ عميق في تصوّراتنا عن الحب، والخذلان، والنجاة. الرواية لم تتوسل تعاطفًا، ولم تتكئ على العنف كأداة للإثارة الرخيصة، بل جاءت كقطعة فحم تكتب على الجدار الداخلي للذات — بجرأة، وسخرية مرة، وهدوء مقلق.
تأتي رواية نهلة العربي، في زمن تتكرر فيه تيمات “المرأة الضحية” أو “الذاكرة المتشظية” في سرديات كثير من الروائيات الليبيات، تفردت نهلة صاحبة رواية الساحر بمسار مختلف: نصٌّ مكتوب من داخل الذكورة السامة، تحللها، تفككها، وربما فضح هشاشتها. دون إعادة إنتاج معنى الذكورة بمفهومنا التقليدي. حيث القاتل لم يتجسد بصفته رجل جاهل أو من اصحاب السوابق، وتفاجئنا صاحبة رواية هروب بأنه رجل متعلّم، هش، يعجز عن التعامل مع الخسارة، فيحوّل النساء إلى رماد.
نحن هنا في رواية “جارٍ البحث”، نقرأ رواية نفسية سردية تتقمّص صوت قاتل متسلسل، طبيب يتحدث بضمير المتكلم، مدفوعًا برغبة جامحة للبحث عن “المرأة المثالية”، لكن بحثه لا يلبث أن يتحوّل إلى هوس مرضي بالسيطرة، والتملك، ثم التخلص من النساء اللواتي يخيبن ظنونه أو يكشفن زيفه الداخلي.
الرواية ترصد رحلته من سارة إلى جيهان، ثم إلى نسرين، وتُقدّم تدريجيًا بورتريه نفسيًا مركبًا لقاتل بدم بارد، يُبرّر أفعاله بلغة باردة وساخرة، في مزيج من الاعتراف والتلذذ المرضي، مع تصاعد سردي يعمّق أسئلة القارئ حول الجنون، والعقاب، والخلاص، وحدود الأخلاق.

الرواية تبرز “الوهم”، عندما يصاب به إنسان غير سوي نفسياً، تبتعد عن الشخصيات الباحثة عن الكمالٍ”غير الموجود في الواقع، رواية تحكي عن الغرق في ذاتٍ لا ترى الآخر إلا مرآة هشًّة تعكس عقدها العميقة.
قدمت نهلة شخصيات الرواية الرئيسة، (الرواي) شاهين (يُقدِّم نفسه أحيانًا باسم مستعار: “توفيق”) – طبيب وراوي القصة، قاتل متسلسل. وارتبطت قصته بمجموعة من النساء -ضحاياه-
سارة ، أول ضحية. امرأة جميلة، اكتشف لاحقًا زيفها وخيانتها.كما يتهكم علىها و يُبرّر أفعاله بلغة باردة وساخرة، في مزيج من الاعتراف والتلذذ المرضي، كما في قوله: ‘لم أحزن عليكِ، لم أستطع فعل ذلك؛ فأنتِ مجرد همٍّ إضافي يُثقِل صدري، كالجاثوم الذي يجلس على صدر إنسان ويُسبِّب له الكوابيس…’ “
أما جيهان (يلقبها بـ “جي جي”) – امرأة جذابة، انتهازية، تلاعبت به، فانتقم منها بفضيحة مدوّية. ثم المرأة الثالثة نسرين عطية – امرأة مريضة بالسرطان، تدّعي أو تمتلك بالفعل قدرة على التنبؤ بالمستقبل.
تبدو رواية “جارٍ البحث” لنهلة العربي غير مطروقة من حيث الفكرة في الأدب الذي تكتبه الأديبات في ليبيا، تمتلك القدرة على كتابة مقطع نفسي مسموم مكتوب بذكاء مخيف. منذ السطر الأول، ينحاز السرد كليًّا إلى عقل القاتل، ويغري القارئ بالدخول إلى عمق هذه النفس المنفلتة دون حاجز أخلاقي واضح. أعترف أنني انحزتُ، ولو جزئيًا، لهذا الأسلوب السردي الذي يُربك القارئ: متى يتعاطف؟ متى يُدين؟ ومتى ينسى أنه يقرأ اعترافات قاتل؟
اللغة في الرواية سلسة، مباشرة، وفي أحيان كثيرة محمّلة بسخرية جارحة، لكنها تحتفظ دائمًا بلمعان نرجسي مَرَضي، يعكس بمهارة تضخُّم الأنا عند الراوي. ربما هذا أكثر ما أغراني بالاستمرار؛ أن أراقب كيف تتحول مشاعر الهزيمة والخيانة إلى قرار قتل، دون أن يفقد النص برودته أو منطقه القاتل الخاص.
نهلة تقدم بطلاً لتفضح ما تبقى من بطولة زائفة في عقل رجل هش، يرى في النساء مرآة لفشله، ويقرر أن يكسرهن واحدة تلو الأخرى.
النص يسير على طبقات، مثلما تقشير ثمرة بصل، طبقة تلو الأخرى، لتكتشف في كل طبقة وجهًا جديدًا للخراب . بينما يظهر على السطح، مونولوج داخلي لرجل يدخّن سيجارته الخامسة والستين، ويبرر قتل امرأة لأنها “أصبحت عبئًا” ثم مع وصولنا إلى القشرة الأخيرة قريباً من اللب نكتشف ما خبأته لنا، تحت السطح، حيث تتراكم رموز لم تكن عبثًا مثل:
- السيجارة لم تكن وسيلة للتنفيس، بل استعارة عن الحرق الكامل، عن الفناء المُتعمد.
- الكفن بدل الفستان الأبيض يشبه كوميديا سوداء،يمثل خلاصة فلسفية لرجل يرى في الأنوثة عبئًا وفي الحلم الرومانسي فخًّا. كما في سؤاله الساخر لسارة: ‘ما رأيك في هذا الكفن الجميل؟’ “
- الجاثوم الذي يجثم على صدره هو صورة جسدية لانسداد النفس، من ذاته التي لا تعرف كيف تحب دون أن تتحكم.
وفي خلفية السرد، هناك نبض خافت لمجتمع يُشاهد بشكل سلبي كأنه يتفرج على الشاشة ، عاجزاً عن التدخل. يظهر فجأة عبر السوشيال ميديا أو المقهى أو برنامج تلفزيوني، كأن الراوية تذكّرنا:
القتلة لا يعيشون في فراغ، بل في مجتمعات تؤمن بأن النساء “يستحقن ما يحصل لهن”.
الرواية أيضًا تنجح في بناء تعدّد سردي ذكي: تبدأ من اعتراف داخلي باردوهي التي تشكل (طبقة نفسية) تنتقل لتكشف عن ردود أفعال الرأي العام بصفتها (طبقة اجتماعية)، ثم تُلمّح إلى احتمال وجود شبكة، أو على الأقل عقلية منظمة وراء العنف (طبقة تشويقية غامضة) • وأخيرًا، تتركنا في مستوى “ما وراء السرد” حين يعلّق القاتل على اللقب الذي منحه الناس له، كأنه يُشارك في كتابة الميثولوجيا حول نفسه.
لكن الأهم… أن الرواية لم تسعى إلى إصلاح القاتل، بل فضحته . في ذات الوقت لم تصنع من الضحية إيقونة، وفي ذات الوقت عمدت لاإظهار كيف يتحوّل الحب إلى مشروع مدمر حين لا يفهم المرء نفسه ولا الآخر.
نهلة العربي في هذه الرواية تكتب عن “امرأة مقتولة”، بصوت رجلٍ ميت من الداخل يجرّ معه من يلمع في عينيه للحظة، ثم يُطفئهم كما يُطفئ سيجارته الأخيرة.
الإيقاع والتصعيد السردي: الرواية تتّبع تصعيدًا نفسيًا تدريجيًا — من جريمة عاطفية إلى فضيحة اجتماعية، ثم إلى ارتباك فلسفي بعد ظهور نسرين. وهذا يخلق نوعًا من التوتر المستمر، لكنه في بعض المواضع يتكئ كثيرًا على المونولوج الداخلي على حساب الحدث الخارجي. “نهلة تختار أن تبني الرواية على شكل بوح متصاعد، يبدأ من الجريمة الأولى، ويصعد تدريجيًا نحو مناطق أكثر تعقيدًا، ليس في الحدث وحده، بل في دواخل القاتل الذي نتابع تفسّخه النفسي ببطء شديد. دون أن تورط القارئ بالملل، حتى يشعر بالتورط صفحة وراء أخرى.


الزمن السردي في الرواية اتخذ أسلوب خطّي ظاهريًا، لكن داخليًا تعود كثيرًا إلى الاسترجاع (flashback)، خاصة في علاقات شاهين مع النساء. هذا يجعل القارئ كأنه يغرق في دائرة لا تنتهي، وكأن الزمن نفسه فقد المعنى عند الراوي.
صوت الراوي وغياب التعدّد الصوتي: الرواية بالكامل تقريبًا تنحاز لصوت القاتل. وهذا اختيار جريء، لكنه أيضًا مخاطرة فنية، إذ لا تترك مساحة لأي صوت معارض داخلي أو سردي، ما يجعل النص في لحظات معينة أحاديًا، وكأننا داخل غرفة مغلقة بلا نوافذ.القاتل هنا يعجز عن التعامل مع الخسارة، فيحوّل النساء إلى رماد. يقول في لحظة من البرود المقلق: ‘سأموت؟! كلنا سنموت يا عزيزي، ولكن الفرق هنا سأموت ولم أخسر أي جزء من المتعة وأنا أحرق همومي وأُخرِجها من صدري دخانًا يختفي في الهواء.’ “
وأخيراً، اللغة عند نهلة العربي مشغولة كأنها مشرط: حادة، مباشرة، لا تخشى التكرار حين يخدم غرضًا نفسيًا. أحيانًا تطغى السخرية السوداء، فتجعل حتى اعترافات القتل محمّلة بنبرة تتهكم على الذات والعالم معًا.