
في عالم يتخبط في هوة الفوارق الحسية والثقافية تبرز الرحمة كلغة أنطولوجية تتحدى حدود الوجود البشري. قال مارك توين: “الرحمة هي اللغة التي يسمعها الأصم ويقرأها الأعمى”هذه المقولة التي تبدو شعرية في ظاهرها تحمل في طياتها عمقًا فلسفيًا يتجاوز البلاغة إذ تكشف عن الرحمة كفعل وجودي ينفذ إلى جوهر الإنسانية متجاوزًا الحدود المادية واللغوية. الرحمة ليست مجرد عاطفة بل هي لغة الروح التي تتحدث بصمت الفعل وتكتب بحبر التعاطف وتنير ظلمة العزلة الإنسانية وفي هذا المقال سنغوص في أعماق هذه المقولة مستكشفين فلسفتها من خلال عدسة تاريخية وأدبية مع التركيز على ارتباطها بالقيم الإنسانية ونستعرض شواهد تاريخية وأدبية تعكس قدرتها على إعادة صياغة الوجود البشري.
تحليل المقولة
مارك توين كاتب أمسك بلغة الإنسانية في القرن التاسع عشر يقدم في مقولته صورة رمزية تتجاوز البلاغة لتصل إلى جوهر فلسفي. عندما يصف الرحمة بأنها لغة يسمعها الأصم ويقرأها الأعمى فهو يشير إلى أنها تتجاوز الحواس المادية لتصبح فعلًا وجوديًا يلامس الروح. الأصم المحروم من سماع الأصوات يتلقاها كاهتزاز داخلي كلمسة حانية أو فعل تضامن ينطق بلغة الصمت. الأعمى الذي يعيش في ظلمة بصرية يدركها كنور باطني كدفء إنساني يخترق الغياب. الرحمة إذن هي لغة أنطولوجية كما يصفها إيمانويل ليفيناس في “الكليات واللامتناهي” حيث تكون “وجه الآخر” دعوة أخلاقية لا مشروطة تتجاوز اللغة المنطوقة لتصبح مسؤولية وجودية. هذه اللغة لا تحتاج إلى وسائط مادية بل هي فعل يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والآخر مؤكدة على أن الرحمة ليست مجرد شعور بل قوة تحولية تكسر جدران العزلة وتعيد بناء الإنسانية.
فلسفيًا تتقاطع هذه الفكرة مع شوبنهاور في “العالم كإرادة وتمثل” حيث يرى الرحمة كوسيلة لتجاوز “حجاب المايا” وهم الفردية للوصول إلى الوحدة الأساسية للوجود. الرحمة هنا ليست مجرد فضيلة بل تجربة ميتافيزيقية تذيب الحدود بين الأنا والآخر مما يجعلها لغة كونية تتحدث إلى الجوهر البشري كما لو كانت صوت الكون نفسه هذا العمق الفلسفي يجعل مقولة توين دعوة لإعادة التفكير في التواصل البشري حيث تصبح الرحمة لغة لا تكتب بحروف بل بأفعال تعيد صياغة الوجود.
شواهد من التاريخ
التاريخ يكشف عن الرحمة كقوة تحولية تتجاوز الفوارق لتصبح لغة توحد البشرية. أحد الأمثلة العميقة هو عمل الأم تريزا في كلكتا خلال القرن العشرين حيث كانت تخدم المهمشين في أحياء الفقر بصمت يفوق الكلام. لم تكن تريزا بحاجة إلى لغات متعددة لتتواصل مع المرضى والمشردين من ثقافات مختلفة كان فعلها في غسل جروح المصابين أو احتضان الأيتام لغة تتحدث مباشرة إلى الروح. هذه الأفعال التي أسست حركة “مبشري الرحمة” لم تكن مجرد صدقة بل كانت تعبيرًا عن رؤية فلسفية تتردد مع أفكار ليفيناس حيث تكون الرحمة استجابة لنداء الآخر فعل يعيد تعريف القيم الإنسانية كمسؤولية لا نهائية تجاه المعاناة البشرية.
مثال آخر يأتي من فترة الحرب العالمية الثانية عندما قام أفراد مثل ميب غيز في هولندا بإيواء اليهود الهاربين من النازية كما في قصة عائلة آن فرانك. هؤلاء الأفراد الذين واجهوا الموت بسبب أفعالهم لم يحتاجوا إلى لغة مشتركة مع الهاربين الرحمة كانت لغتهم جسرًا من التضامن يتجاوز الفوارق الدينية والعرقية. هذه الأفعال تتردد مع فلسفة هانا آرنت في “الشر البسيط” حيث تكون الرحمة مقاومة أخلاقية للشر فعل وجودي يعيد تأكيد الإنسانية في وجه الوحشية شواهد التاريخية تبرز الرحمة كلغة عملية لا تقتصر على الشعور بل تعيد تشكيل التاريخ نفسه.
الرحمة والادب
الأدب بوصفه مرآة الروح الإنسانية يقدم الرحمة كلغة شعرية وفلسفية تتجاوز حدود الزمن والمكان مع عمق نفسي وروحي يعكس تعقيدات الوجود. في مسرحية “تاجر البندقية” لوليام شكسبير (1596-1598) تقدم بورتيا تأملًا شعريًا عميقًا عن الرحمة قائلة: “جودة الرحمة غير مشروطة إنها تنزل كالمطر الوديع من السماء” رحمة ليست مجرد عفو قانوني بل قوة إلهية تحول العدالة القاسية إلى تعاطف إنساني متجاوزة الفوارق بين شايلوك اليهودي وباقي الشخصيات. هذا التصوير الشعري المستلهم جزئيًا من التأثيرات الأدبية العربية في الأندلس يجعل الرحمة لغة كونية تتجاوز الصراعات الاجتماعية كما لو كانت لحنًا يعزف على أوتار الروح.
في رواية “الإخوة كارامازوف” لفيودور دستويفسكي (1880) نجد الرحمة في شخصية الراهب زوسيما الذي يدعو إلى “الحب النشط” وهو شكل من الرحمة يتطلب تحمل معاناة الآخرين عندما يروي زوسيما قصة توبته يكشف كيف أن الرحمة المتمثلة في فعل الاعتراف بالذنب والتضامن مع الضحايا تحول الذات من العزلة إلى الوحدة مع الكون. هذا يتردد مع فلسفة شوبنهاور حيث تكون الرحمة السبيل لتجاوز الأنا. في الأدب العربي يقدم أبو العلاء المعري في قصيدته “اليتيم” رؤية صوفية عميقة: “وإذا الرحمة حلت في القلب فهي نور يهدي الضال في الظلام”. المعري الذي كان أعمى يرى الرحمة كنور داخلي يتجاوز العمى الجسدي لغة روحية تعكس الوحدة مع الإلهي مستلهمًا من التصوف الإسلامي.
أما في رواية “الغريب” لألبير كامو (1942) فإن غياب الرحمة في شخصية ميرسو يكشف عن العبثية في العالم لكن النهاية تقدم تلميحًا إلى إمكانية الرحمة كوسيلة لتجاوز العزلة الوجودية حيث يبدأ ميرسو في فهم الآخرين من خلال مواجهته للموت. هذه الأعمال الأدبية من شكسبير إلى كامو تبرز الرحمة كلغة شعرية وفلسفية تتجاوز الحدود لتصبح حوارًا بين الروح والوجود.
شواهد من العصر
في عالمنا المعاصر تظهر الرحمة كلغة حية تتحدى الفوضى والانقسامات في أزمة اللاجئين مثلا السوريين منذ 2011 فتحت أسر في الأردن ولبنان وتركيا بيوتها لاستقبال ملايين الفارين من الحرب رغم الفوارق اللغوية والثقافية لم تكن مجرد مساعدات بل كانت لغة رحمة أعادت بناء الروابط الإنسانية في ظل المعاناة وهذا التعاطف يعكس فكرة ليفيناس عن “وجه الآخر” كدعوة أخلاقية حيث تصبح الرحمة فعلًا وجوديًا يعيد تعريف القيم الاجتماعية في أوقات الأزمات.
كذلك نجد منظمة “أطباء بلا حدود” التي تعمل منذ 1971 في مناطق النزاعات والكوارث فالأطباء والمتطوعون في هذه المنظمة الذين يقدمون الرعاية في مخيمات اللاجئين أو مناطق الزلازل لا يحتاجون دائمًا إلى لغة مشتركة مع المرضى الرحمة تتحدث من خلال أفعالهم كإنقاذ حياة أو تقديم ابتسامة تضامن وكل هذه الجهود التي أثرت على ملايين الأرواح تؤكد أن الرحمة ليست مجرد استجابة عاطفية بل لغة فلسفية عملية تبني جسورًا بين البشر متجاوزة الفوضى السياسية والثقافية.
مقاربات الرحمة والأديان
الرحمة كقيمة جوهرية في الأديان العالمية تتجاوز الحدود الدينية لتصبح لغة روحية تربط الإنسان بالإلهي وبالآخر
في البوذية تعرف الرحمة بـ“كارونا” وهي إحدى الفضائل الأربع التي تؤدي إلى التنوير. يعلم بوذا أن الرحمة هي تعاطف مع كل الكائنات الحية كما في النصوص البوذية مثل “دخامابادا” حيث تكون لغة تذيب الفوارق بين الذات والآخر موجهة نحو السلام الكوني.
في المسيحية تظهر الرحمة في تعاليم يسوع المسيح كما في “خطبة الجبل”: “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون” (متى 5:7) وفي قصة السامري الصالح حيث تكون الرحمة فعلًا يتجاوز الفوارق العرقية والدينية معبرة عن محبة إلهية غير مشروطة.
اما اليهودية تؤكد على “خيسيد” أو الرحمة الكريمة كما في المزامير: “رحمة الرب تملأ الأرض” حيث تكون الرحمة لغة تعكس العهد بين الله والإنسان
في الهندوسية تتجلى الرحمة في “أهيمسا” عدم العنف كما مارسه غاندي وفي الجاينية بـ“دايا” التعاطف مع كل أشكال الحياة.
في الإسلام يوصف الله بـ“الرحمن الرحيم” ويقول القرآن: “ورحمتي وسعت كل شيء” (الأعراف: 156) داعيًا الإنسان إلى محاكاة هذه الصفة كما في الحديث: “الراحمون يرحمهم الرحمن” هذه الأديان رغم اختلافاتها تتفق على أن الرحمة لغة روحية تتجاوز الفروقات معبرة عن قيم إلهية تبني الوحدة الإنسانية وتعيد صياغة العلاقة بين الفرد والكون.
مقاربة فلسفية
من منظور فلسفي شرقي كما في البوذية والصوفية تعتبر الرحمة جوهر القيم الروحية التي تربط الذات بالكون. في البوذية تعد “كارونا” بوابة للتنوير حيث تتجاوز الأنا لتصبح لغة كونية تعبر عن الوحدة الأنطولوجية للوجود كما يوضح الفيلسوف ناغارجونا في تعاليمه عن “الفراغ” حيث تكون الرحمة السبيل لفهم الترابط بين الكائنات. في الصوفية الإسلامية كما عند جلال الدين الرومي في “المثنوي” توصف الرحمة كنور إلهي يذيب جدران الأنا كما في قوله: “خارج حدود الصواب والخطأ هناك حقل سألقاك هناك”. رؤية تجعل الرحمة لغة ميتافيزيقية تتجاوز الثنائيات معبرة عن قيم الوحدة والحب الكوني. في الفلسفة الحديثة يقدم ليفيناس في “الكليات واللامتناهي” رؤية ثورية ترى الرحمة كأساس الأخلاق حيث تكون مسؤولية غير مشروطة تجاه “وجه الآخر” وهذه المسؤولية تجعل لها لغة وجودية تعيد تعريف القيم كعلاقة ديناميكية تتحدى الأنانية وتبني مجتمعًا قائمًا على التعاطف اللامتناهي. ليفيناس بذلك يجعل الرحمة ليست مجرد فعل بل تجربة فلسفية تعيد تشكيل مفهوم الإنسانية ذاته.
الرحمةوعمق الوجود
وفي عالم متناقض تصبح مقولة مارك توين لغزًا بين المعنى والحدث وإن كانت تكشف عن الرحمة كلغة فلسفية وروحية تتجاوز الحواجز الحسية والثقافية لتصل إلى جوهر الوجود البشري من خلال الشواهد التاريخية مثل الأم تريزا وميب غيز والأدبية من شكسبير إلى دستويفسكي والمعري وكامو و لقد تحولت الرحمة من فكرة إلى قوة تغير التاريخ والنفوس واصبحت فلسفيًا الجسر بين الذات والآخر كما رآها شوبنهاور وليفيناس وشعريًا هي النور الذي يهدي في الظلام كما وصفه المعري ولكن في عالم يزداد تمزقًا تظل الرحمة لغة الحياة في جدلية بين من يراها ضعفًا ومن يراها قوة وجودية تعيد بناء الإنسانية كأنها لحن كوني يجمعنا في رقصة الوجود المشترك.
ونعود في كل حدث إلى رؤية
“دالاي لاما “عندما ينصح ببساطة وعمق فيقول:
“إذا أردتَ أن تجعل الآخرين سعداء، مارس الرحمة وإذا أردت أن تكون سعيدًا، مارس الرحمة.