الكاتب مروان ناص
(حين تُترك لك حرية الغوص في كل بحار العالم… بشرط ألا تقترب من البرّ الملكي)
في “الزمن الجميل”، لم يكن المثقف مطاردًا علنًا، لكنه كان محاطًا بخطوط حمراء غير مكتوبة. قيل له: “اكتب كما تشاء، ناقش ما تريد، حلّل الروايات، غُص في بحار الفكر العالمي…” لكن بشرطٍ واحد: ألا تقترب من البرّ الملكي، حيث يجلس الحاكم ومؤسساته المحصّنة بالصمت.
هامشٌ ذهبي… لكنه مربوط بخيط خفي
كان يمكن للكاتب أن يهاجم “التلقين في المدارس”، أن يسخر من “تدني الذائقة الأدبية”، أن ينعي الشعر، وأن ينتقد قسوة المجتمع وتخلّفه.
بل كان يُشجَّع على ذلك أحيانًا ليبدو المشهد منفتحًا.
لكنْ عليه أن يتوقف قبل السؤال الأخطر:
ــ من المسؤول عن هذا الخراب؟
ذلك السؤال وحده كان يفتح نافذة نحو العرش،
وكان الاقتراب من العرش محرّمًا، ومسوّرا بالرعب.
أدب العالم… نافذة للهروب المشروع
وجد المثقفون في الأدب العالمي مهربًا أنيقًا. كتبوا عن “كافكا”، وهم يقصدون قسوة بيروقراطيتهم المحلية. حلّلوا “1984” لأورويل، وكل قارئ ذكي كان يعرف أن “الأخ الأكبر” يعيش بينهم، يطلّ من كل جدار. ناقشوا الرقابة في أمريكا اللاتينية، وكل ابتسامة بين السطور كانت تقول: نحن نتحدث عن أنفسنا.
لقد كان الأدب الأجنبي مرآة ملتوية،
يختبئ فيها المثقف ليقول ما لا يستطيع قوله مباشرة.
المثقف المعارض الصامت
كان هناك جيل كامل يُعرف بـ “المعارض الصامت”.
يجلس في أمسيات الشعر الرسمية،
يقرأ قصائد غامضة متخمة بالرموز. ثم يغمز لصديقه بعد انتهاء الأمسية وكأنه يقول:
ــ فهمتها؟ كنت أعني شيئًا آخر…
لم يكونوا جبناء، بل كانوا يتقنون لعبة اللغة.
يشبهون لاعبي السيرك الذين يمشون على حبل مشدود فوق بحر من المحظورات، يبتسمون للجمهور وكأنْ لا شيء يحدث، بينما قلوبهم تعرف حجم الخطر.
المسموح والممنوع… لغة غير مكتوبة
لم تكن هناك لوائح أو قرارات رسمية تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع.
لكن الجميع كانوا يعرفون القاعدة. يعرفون أن هذا الكتاب سيُمنع دون تفسير،
وأن تلك الجملة ستُشطب من المجلة دون إشارة،
وأن اللقاء الثقافي سيُلغى في اللحظة الأخيرة “لأسباب تنظيمية”.
يعرفون أن الكاتب قد يُنسى فجأة، تختفي نصوصه من الملاحق الثقافية بلا سبب.
كانت هناك شرطة خفية تسكن في الوعي أكثر مما تسكن في الشارع.
رقابةٌ غير مرئية لكنها أكثر حضورًا من أي قانون.
من الرقابة الخارجية… إلى الرقابة الذاتية
في الماضي، كان رجل الأمن يقرأ النص ويشطب الجملة. أما اليوم، فقد صار الكاتب هو الرقيب على نفسه. يحذف العبارة قبل أن تخرج من عقله. يختصر، يلمّح، يترك الفكرة ناقصة.
انتقلت الرقابة من المكتب إلى الضمير، من المخابرات إلى الاحتمال. صارت أشبه بظلّ دائم يرافق الكاتب، لا يراه أحد لكنه يعرف أنه هناك.
المثقف في لعبة الجوائز والانتقاء
في “الزمن الجميل”، لا تُلغى القيود، بل تتبدّل. المثقف يُكافَأ إذا كتب بلا شوائب، وتُفتح له أبواب الجوائز إن سار مع التيار، ويُقصى بهدوء إن تمرد.
يقال له: “لم يمنعك أحد”،لكنه يعرف أن نصه لن يجد ناشرًا، أو أن دعوته إلى المهرجان سقطت “سهوًا”.
خاتمة
في “الزمن الجميل”، كانت الثقافة مثل قارب صغير في بحر واسع،
مسموح لك أن تبحر كما تشاء، لكن فقط في الاتجاه المرسوم. وإذا غيّرت شراعك، ابتلعك البحر بلا أثر.
ومع ذلك، كانت هناك نصوص وُلدت بين المحظورات، مكتوبة بالحبر والدم، صمدت لأنها قالت الحقيقة في نصف جملة، أو لمحت إليها في استعارة.
كان المثقف يومها يهمس لصديقه في الظل:
ــ كل شيء مسموح… إلا الحقيقة…!!
