هذه الدراسة تتناول بالدرجة الأولى “العصر الذهبي” الذي شهد استقلال بيروت والمدن الفينيقية (1200-900 ق.م)، تلاه حكم الإمبراطوريات الشرقية (900-332 ق.م) وهي الامبراطورية الآشورية السامية (900-612 ق.م)، والامبراطورية الكلدانية السامية (612-538 ق.م)، والامبراطورية الفارسية (538-332 ق.م). يقول أكثر المؤرخين أن العهد الفينيقي المجيد استمرّ تسعمائة سنة، أي منذ بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد إلى العهد الإغريقي.
نظراً لوقوعها في ملتقى الطرق التجارية العالمية، لعب موقع بيروت الجغرافي الاستراتيجي الهام الدور الأساسي في تحديد تاريخها الاقتصادي والاجتماعي، وتجلّى ذلك عبر تاريخها الموغل في القدم. كانت هذه المدينة المميزة إحدى مدن فينيقيا المشيّدة على “نتوءات” promontories مقابلة للبحر مثل جبيل وصيدا، مكنت أهلها من الاحتكاك بالبحر وينطلقوا إلى ميدان التجارة. وبما أن التجارة تحتاج إلى أسواق، والأسواق تحتاج إلى تجارة وتجّار، إنطلق فينيقيو الساحل الشرقي للمتوسط ببضائعهم ومصنوعاتهم إلى أسواق العالم القديم خاصة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط وجزره.
لقد إشتهر الفينيقيون، وبمبالغة كبيرة، بصناعة الأرجوان لدرجة أنني كنت أظن في سنواتي الأولى على مقاعد الدراسة أنه لم يكونوا يعرفون سوى هذه الصنعة. والحقيقة أن صادراتهم كانت تعتمد بالدرجة الأولى على المنتوجات الزراعية خاصةً ما تنتجه الأشجار المثمرة من فاكهة متنوعة ومحاصيل القمح والشعير والشوفان والزيتون وزيته، والتي كان قسم كبير منها يصل إلى بيروت ليتم نقله إلى المراكب. واستحوذت الزراعة على حياة الفينيقيين حتى في معتقداتهم الدينية، حيث نرى أن أكثر أسماء آلهتهم مشابهة لأسماء الأشجار المتوفرة في مناطق عيشهم. مثلاً: الإله ريمان Riman من رمّان، والإله تامار Tamar من التمر (شجر النخل)، والإله أتاسا Atassa من حَب الآس، وهكذا.
تجدر الإشارة إلى أن بيروت في العصر الفينيقي لم تكن الميناء الكبير والمهيمن الذي نتصوره اليوم، إلا أنها لعبت دوراً هاماً في الشبكة البحرية التي ربطت الساحل الفينيقي. يذكر الباحث مارينر أن النصوص القديمة والأدلة الأيقونية تشير إلى وجود أربعة مجمعات للموانئ في هذه المنطقة خلال العصور القديمة:
(1) ميناء بحري شمالي يتجه نحو صيدا وبيروت وجبيل (يشار إليه باسم مرفأ صيدا أثناء حصار صور من قبل الإسكندر الأكبر المقدوني).
(2) مرسى جنوبي مواجه لمصر [يدعى المرفأ المصري].
(3) عدد من الموانئ الخارجية، تستفيد من تلال الحجر الرملي المكشوفة في ذلك الوقت.
(4) مجمع قاري يقع حول “تل مشوك” و”تل شواكير”، والذي كان بمثابة مركز نقل لسكان صور القديمة خلال العصر البرونزي. [Marriner et al, Journal of Archaeological Science, Vol. 35, [Issue 5, May 2008
يتبع…
الصورة: مراكب فينيقية على شاطىء صخرة الروشة في بيروت كما أنتجها الذكاء الإصطناعي وهي تخيلية بالطبع (تقدمة الصديق وسام أسّومة).
ملاحظة: لم تتم الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في نص هذا البحث باي شكل من الأشكال.
