أشير هنا إلى كلمة قالها البروفيسور المرحوم / عبد الله الطيب ، عن كتابه { المرشد إلى فهم اشعار العرب وصناعتها } الذي كتبه في بداية خمسينيات القرن العشرين ، قال : { ووجدت بعض الأساتذة يأخذون من كتابي ” المرشد ” فمنهم من يسلخ سلخاً ومنهم من ينسخ نسخاً ومنهم من يقتبس اقتباساً ومنهم من يأخذه كله ولا يشير إلى صاحبه } وقد نبه كثيراً إلى نحو من ذلك في كتابه ” إلتماسة عزاء بين الشعراء ” الذي كتبه بنيجيريا أوائل السبعينيات من القرن الماضي ، بأنه اعتماداً على ابن قتيبة أن : { الشعراء ينظر بعضهم إلى بعض } فمنهم من ينظر إلى الكلمة ويأتي بمثلها حباً أو إعجاباً أو اعتراضاً ومنهم من يأتي بالمعنى من البيت أو القصيدة فينظم على شاكلتها ، ومنهم من يجاريها في الوزن والبحر والقافية والجرس الموسيقي وهلم جرا ، ولا يضيرهم من ذلك شيئا .
هذا ! مثال على ذلك : ما نظمه الأستاذ المرحوم / أحمد محمد صالح ، صاحب ديوان ( مع الأحرار ) على منوال قصيدة الشاعر الكبير / علي الجارم :
عيد الجلوس صدقت وعدك بالمنى وصدقت وعدي
قال صالح :
فينوس يا رمز الجمال وزينة الأيام عندي
فنتج عن هذه المجاراة الفن الأصيل بلا ريب ، راجع بسطهما وبذلهما في كتابي ” قبضة من أثر الأديب” ، لمزيد من التفاصيل.
لا يخفى على ذي عينين مجاراة الفرزدق وجرير في مدح بني أمية وامراءها ، وثالثهما الاخطل ، كل ذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن نصطلح عليه بالسرقات الأدبية أو الشعرية المحضة ، لكن يمكن وصفهم بالنظر الفني وسيرورة المثل السائر كل يخط خطه ويضع بصمته في فنه اتساقاً واندياحاً وصياغاً بلا شك.
هذا ! ما قيل عن الشعر يقال عن الرواية وكافة ضروب الأدب العربي القديم والحديث ، لكن أنا هنا بصدد الرواية ، كما رأينا في العام المنصرم أحد أدعياء الكتابة الروائية أن قام بسلخ عنوان رواية الأستاذ الكبير / الطيب صالح ، { موسم الهجرة إلى الشمال } حيث سلخ العنوان سلخاً حتى قطع اللحم وكسر العظم ، ليأتي بضريبه فكتب كتاباً وسمه ب { موسم الهجرة إلى الجنوب } ليضاهي به سيرورة الأول فلم يفلح ولم يكد ، فضاع جهده سدى .
ومثل هذا كثير للغاية ، ومثاله: نسبة القصص والروايات والأمثال الشعبية من شخص لآخر دون أن يشير إلى صاحبه وهذا في التراث الشفاهي الشعبي متعارف عليه مما يغني عن ذكره ههنا.
ما دعاني لكتابة هذه الكلمة هو الصراع الحديث بين الذكاء الاصطناعي وبين التأليف الذهني المباشر المتعارف عليه في نصوص الملكات الإبداعية الخلاقة من ضريب لغة الخيال والفكرة ووحدة الموضوع والابتكار والتجديد وما إلى ذلك دون النظر أو الأخذ الشديد من الإنترنت الذي أصبح قبلة لا مناص منها بواقع الحال ، فانتفى الإبداع وتألق التأليف الشخصي الفردي عن جادة الاجتهاد والمثابرة والكد بالاطلاع على المنقول قديمه وحديثه تفحيصاً وتلخيصاً وتمحيصاً مما يثمر فكرة جديدة أو ابداعاً مختلفاً ، لكن الاعتماد كل الاعتماد على الذكاء الاصطناعي من شبابنا وبناتنا اليوم لهو من أكابر المصائب على جيلنا الحالي واللاحق لنا بلا منازع.
منذ فترة ليست بالبعيدة بعثت إلي احداهن بكتاب وسمته بالرواية ، وما هو برواية ، بل هو منسوخ نسخاً ومسلوخ سلخاً ومأخوذ أخذاً عنيفاً ومقتبس اقتباساً معيباً من الذكاء الاصطناعي مما يسمى بتطبيق شات جي بي Chat GPT الذي ما عليك فعله سوى ضغطة زر واحدة تمليه للتطبيق بكلمة أو كلمتين فسرعان ما يحيل إليك الفكرة إلى كتاب مصنوع صناعة لا محل له من الإبداع ولا إلى التقييم الحقيقي ولا الانتساب إلى قبيلة التأليف وجودة البحث وجادة الاجتهاد والمثابرة والكد بالاطلاع على المنقول تفحيصاً وتلخيصاً وتمحيصاً مما يظهر سخفه وضعفه بسرعة كبيرة من أول اطلاعك على العنوان .
أخشى ما أخشى على كاتبنا المبدع الروائي السوداني العالمي / عبد العزيز بركة ساكن ، أن لا يجد غداً في سوق الأدب الروائي مندوحة ينال بها مكانته العالمية اليوم كما هو عليه ، لعدم المنافسة الشريفة / هذا إن وجدت أصلاً / بين من سهر الليالي وشق عليه أن يخرج للناس فناً أصيلاً رائعاً يعالج قضايانا المجتمعية الإنسانية والأخلاقية السودانية وغير السودانية بأسلوب الأديب المحترف ، في سوق الكساد التأليفي الخلاق ، وما بين هواة الهوت دوق والتيك أوي أرباب الذكاء الاصطناعي ، فشتان ما بين الاثنين من ثرى وثريا ، ولا عزاء حينئذ لبركة ساكن وبدر الدين العتاق ونفر قليل ممن رحم ربي ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
هذا ! ولقد أطلعت على ناشئة السوء سالفة الذكر ممن استعان بالذكاء الاصطناعي مما قدمته لي احداهن ، فما كان لي إلا أن رفضته جملة وتفصيلاً ، لأنه خلا من البصمة الإبداعية الخلاقة فشكل عندي أزمة ابداع واجتهاد للجيل الحالي واللاحق ، فلم اكلف نفسي جهد مشقة القراءة فلفظته كما تلفظ الحية سمها من فيهها وكما يلفظ أحدكم حموضة الحنظل الخلوي من طرف لسانه إذا ذاقه ، غير مأسوف عليه ولا عليها ، قال المتنبي :
ومن ركب الثور بعد الجواد* أنكر أظلافه والغبب
( الغبب معناه شنو)
يجب أن ننتبه للتفريق بين جمود الذكاء الاصطناعي الذي يفقد الإحساس بطبيعة الأشياء والأحياء من النفس البشرية حين يلجأ إليه البعض ، وبين جادة الكلمة التي هي خارجة من رحم المعاناة نحو الإبداع والخلود وإصلاح المجتمع الإنساني قاطبة ، ومتى ما نظرنا بنظر ابن قتيبة والعسكري وقدامة بن جعفر والمجذوب والعتاق وخلافهم ، كان من حلاوة الروح والامتاع والموانسة الأمر الذي نستسيغه ونطرب به ونعجب له أشد الإعجاب ، أما أخذهما من التطبيقات الذكية بلا حياء وبلا وازع أخلاقي أو ضمير يقظ ، فهذا أمر حنبريت بلا منازع ولا يقوم على ساق ولا على كتف والعاقبة عندنا بالابداع وروائع الكلم كالعهد الذي بيننا وبين المبرد والاخفش وصاحب الجمهرة وخلافه .
بدر الدين العتاق
القاهرة في: ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٥
