د. مسلم محمد جمعة
كلمة «حريم» لازمت المرأة من ولادتها والى مابعد رحيلها عن هذه الدنيا ،فهل هي نعمة أم نقمة ؟ وللإجابة على هذا السؤال ،يتطلب الغوص الى أبعاد الكلمة فهي من أكثر الكلمات ثراءً من حيث البعد الاجتماعي والفلسفي والتاريخي .
بداية لا بد من الاطلاع عبر المعاجم اللغوية للوقوف على معنى الكلمة لغة :
فكلمة «حريم» مشتقة من الجذر ح ر م، الذي يفيد معنى المنع والقداسة.
فنقول: “البيت الحرام” أي المقدّس الذي لا يُنتهك.و”الحِرْم” ما يُمنع الاقتراب منه
إذن، في أصلها اللغوي، الحريم هنّ النساء اللواتي يُحرَّم الاقتراب منهن أو انتهاك حرمتهن.
وتفيد المعاجم القديمة بأن “الحريم: نساء الرجل وذوات قرابته ممّن يحرُم نكاحهن على غيره، ويُصان جانبهنّ.”
بعد اطلاعنا على المعنى اللغوي” للحرم”،أنتقل للبحث والتنقيب والوقوف على البعد الاجتماعي ،ووجهة نظر التاريخ.
في المجتمعات العربية والإسلامية التقليدية، اذتحوّلت كلمة الحريم إلى نظام اجتماعي عمراني:باديءذي بدء:يعتبر «الحرَم» في البيت جزءًا من خصوصية المرأة ،محرم على الرجل الغريب دخوله.
وفق هذا المسار الذي تم وضعه للمرأة ،لم تعد العلاقة مختصة بالحرم أو الحماية ،انما تجاوز ذلك الى بنية اجتماعية ، تعتمد على العزل والفصل بين الجنسين، حفاظاً على الشرف و الكرامة .
لكن هذا الفصل لم يكن مجرد ممارسة أخلاقية؛ بل هو نظام سلطة — إذ حدّد فضاء الرجل (العام) وفضاء المرأة (الخاص)، فجعلها كائنًا مستورًا، غير مرئيّ، لكنه محور الشرف الاجتماعي كله.
بعد ان رأينا الجانب الاجتماعي والأخلاقي ل ” الحرم ” فما موقف الفلسفة منه ؟
على المستوى الرمزي، «الحريم» يجسد مفارقة عميقة:فهي مقدسة وممنوعة في الوقت نفسه.وتُكرَّم كشيء ثمين، ولكن هذا التكريم يُمارَس على حساب حريتها المستلبة .
يمكننا النظر الى الكلمة بوصفها نموذجًا لتشييء المرأة تحت ستار الحماية — أي أن المرأة تُرفع إلى مقام «الحرام» لتُمنع، لا لتُكرَّم في استقلالها.
من هنا، يراها بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع (مثل فاطمة المرنيسي) رمزًا لـ الفضاء المغلق للأنوثة في الثقافة العربية الإسلامية: والذريعة التي يستندون اليها هي الأنوثة التي يُنظر إليها كقوة خطرة، يجب احتواؤها بعزلها.
هذا هو وضع ” الحرم ” ما قبل الحداثة ، فما التحول الذي شهده في ضوء الحداثة ؟
في اللغة المعاصرة، لفظ «الحريم» أصبح غالبًا تعبيرًا ساخرًا أو دونيًا:
« راج مع الحريم» – كناية عن التحقير أو النعومة الزائدة.
أي أن الكلمة فقدت معناها الأصلي المرتبط بالقداسة، وصارت علامة على الضعف أو التبعية.
وهذا يكشف انتقالًا رمزيًا من القداسة إلى التشييء الاجتماعي، ومن الحرمة إلى الدونية.
وفق هذا المسار الحديث للكلمة ،وجدت الفلسفة ببعدها ،بأن للكلمة في مفارقة واحدة:
«الحريم» هو المقدّس الممنوع، الذي يعبّر عن الخوف من الأنوثة أكثر مما يعبّر عن احترامها.
الكلمة تكشف عن بنية ثقافية ترى في المرأة كائنًا يجب تسييجه، لا مشاركته — أي أن معنى «الحريم» هو في جوهره تعبير عن حدود الحرية، لا عن الحرمة فقط .فشهدت المجتمعات تبدلاً ؛من العزل إلى المراقبة
في النظام التقليدي، كانت سلطة الرجل أو الجماعة تُمارَس عبر العزل المكاني:
المرأة عالمها الحريم، والرجل في الخارج.
الحدّ الفاصل واضح، والجسد الأنثوي خارج الرؤية.
لكن في العالم الحديث، ومع انفتاح الفضاءات، لم يعد ممكنًا حجب الجسد.
فنشأ شكل جديد من السلطة: المراقبة.
هذا التحول الذي شهدته المرأة وفق مصطلح “الحرم”أخذ من اهتمام الفيلسوف فوكو ي كما جاء ف كتابه “المراقبة والعقاب”:
السلطة الحديثة لا تعزل الأجساد، بل تراقبها وتعيد تشكيلها.
تجعل الناس يراقبون أنفسهم كما لو كانت عيون السلطة داخلهم
وفق هذا المسار لم يعد “الحرم ” الجديد وراء الجدران، بل في نظرات الآخرين وفي الوعي الاجتماعي الذي يراقب الجسد الأنثوي باستمرار.
الحريم كمنظومة مراقبة ذاتيةاذ في المجتمعات الحديثة، كثير من النساء يختبرن ما يمكن تسميته بـ “الحريم الداخلي” —
ليس لأن أحدًا يمنعهن من الخروج، بل لأنهن تعلّمن أن يراقبن أنفسهن باستمرار:
• “هل لباسي مناسب؟”
• “هل كلامي يُفهم خطأ؟”
• “هل ظهوري على الإنترنت عيب؟”
هذه الرقابة الذاتية هي جوهر ما يسميه فوكو السلطة الانضباطية:
سلطة لا تحتاج إلى سجّان، لأننا نحن من نحرس أنفسنا.
وفق هذا المسار للحرم الحديث ،اذا جاز التعبير
الحريم لم يختفِ، بل تحوّل من جدار إلى ضمير.
وانتقل موضوع الحرم من نظرة المجتمع إلى نظرة الشاشةفالمدينة الحديثة نقلت «نظرة المجتمع» إلى المساحات الرقمية:
الصور، القصص، التعليقات، المقاطع القصيرة… كلها فضاءات يُعاد فيها إنتاج فكرة الحريم.
فالمرأة المعاصرة قد تكون “حرة” في الفضاء العام، لكنها محاطة بآلاف العيون الرقمية التي تراقب وتُحاكم —
عيون لا تختلف كثيرًا عن حراس الحريم القدامى، إلا في الشكل.
وبالتالي، تكنولوجيا الاتصال أعادت اختراع الحريم:ليصبح أكثر انتشارًا، وأشد خفاءً.|
الحريم كفكرة فلسفية عن السلطة والجسد
فوكو يرى أن الجسد هو نقطة تقاطع بين السلطة والمعنى.
والحريم هو أحد أوضح تجليات ذلك في الثقافة العربية:
• في الماضي، السلطة منعت ظهور الجسد الأنثوي.
• في الحاضر، السلطة تسمح بظهوره، لكنها تتحكم في كيفية ظهوره.
وهنا تكمن المفارقة ،من كانت تُخفى في العتمة خوفًا من الفتنة، تُعرَض اليوم في الضوء ولكن وفق شروط السوق والهيمنة البصرية.
يمكننا القول بان :كلا النظامين — التقليدي والحديث — يشتركان في شيء واحد: وهو النظرة الى الجسد الأنثوي لا يُترك لذاته، بل يُدار، يُرمَّز، ويُراقَب.
خلاصة فلسفية
الحريم الحديث ليس مكانًا ولا قانونًا، بل هو كناية عن كم من المعاني والأنظار مجتمعةًتحدد موقع الأنوثة في الثقافة عملت على جعل المرأة وفق “الحرم ” تتحول من سلطة خارجية إلى آلية داخلية للمراقبة الذاتية،ومن عزلة مادية إلى انضباط رمزي.
بذلك يمكن القول: المرأة لم تخرج من الحريم تمامًا، بل أخذت الحريم معها إلى العالم، كظلّ ثقافي يرافق الجسد واللغة.
ختاماً : كم هي المعركة شرسة في صراعها مع مجتمعات قولبت المرأة ،لا كما ترغب وتريد المراة ،انما كما تريد القوى صاحبة السلطة في المجتمع .