
استفزّت إخلاص فرنسيس قلمي بعد أن اقتحمت القلبَ مشاعرُها المكتنزة ألمًا وشوقًا وحنينًا، لا بقوّة الكلمة فحسب، بل برقّة العاطفة وصدق التّجربة.
يكفي أنّها استهلّت قطعتها الوجدانيّة بلغتها المحكيّة اللّبنانيّة، محدِّدة الإطار الزّمنيّ والمكانيّ: “كم سنة مرّوا عَ غيابك/ وبعدني بعانق بغربتي صوتك”. فنستشفّ وجود سنوات بين الحضور والغياب، إلّا أنّ هذه السّنوات لم تخفّف من حرارة المشاعر التي تضجّ في أعماقها، والتي لم تفارقها في غربتها الجسديّة، فنراها تلجأ إلى فعل المعانقة، مع ما يتضمّن من عواطف الحبّ والاطمئنان والفرح، لتجمع المحسوس المرئيّ والمتجسّد عبر ارتماء الجسد في أحضان الآخر وضمّه بواسطة حركة اليدين، إلى اللّامرئيّ (الصّوت): صدى الذّكريات، صدى الكلمات المحفورة في العقل والقلب، صدى الماضي الذي يأبى أن يغارد لينشر أمانًا ودفئًا داخل نفسٍ توّاقة إليه في كلّ زمان وكلّ مكان.
وبالقوّة نفسها والزّخم نفسه، تأتي الفصحى بدورها، لتعانق قلم الكاتبة، وتكشف عن حالة نفسيّة ولّدها وضع راهن: غربة وليل وربّما وحدة جعلتها تسترجع الماضي الذي مرّ أمامها يضمّ عابرين في حياتها، تحملهم “رياح الذّكريات”؛ فإذا بها مرّة أخرى، تتجاوز المألوف، مشاركة المتلقّي قوّة المشاعر التي تعصف في أعماقها، وتفاجئنا دمعةٌ تقع من صدرها، من القلب، مركز العاطفة والإحساس، وتنطلق “تحبو نحو الجنوب”.
لقد تمكّنت الدّمعة من تجسيد ألم الكاتبة وحنينها في آن، منطلقةً من “الآن” إلى “الأمس”، ومن “الهُنا” إلى “الهُناك”… فنراها طفلةً تحنّ وتحبو نحو مَن تحبّ، وامرأة أرهقها تعب الغربة والفقد والفراق، فاختصرت بدمعتها المسافات، وجهتها جنوب لبنان، مستحضرة إيّاه في مخيّلتها، هدفُها واحد: أن ترويَ قبرَ والدها… لتبلغ ذروة الرّجاء وهي تخاطب أمّها قائلة: “في الجنوب يا أمّي/ هناك حيث زرعوا رفات أبي”.
لقد أبدعت إخلاص فرنسيس، ودحرت الموت والفناء، إيمانًا منها بالبقاء والاستمراريّة، جاعلة من الرّفات المطمورة غرسةً تنمو وتثمر وتستمرّ في العطاء، ما بقيَ قلبها ينبض حبًّا وبِرًّا ووفاء.
سطور قليلة اختصرت مشاعر نبيلة في مشهديّة تزخر بالصُّور والعواطف والحركة، تثبت أنّ الأدب الحقيقيّ لا يقوم على كمّيّة الأسطر، بل على نوعيّة الكلمات الموظّفة، وأنّ الأديب الحقّ هو مَن نطق حبرُه بصدق عاطفته ورُقيّ أسلوبه.
دام هذا القلم الذي يعبق أصالة وجمالًا، ورحم الله والدًا رفاتُه مزروعة في لبنان، وثمرته تزيّن موائد الفكر والأدب في العالم.
النص:
كم سنة مروا ع غيابك
وبعدني بعانق بغربتي صوتك !!!!
كثر العابرون هذا المساء
تحملهم رياح الذكريات
وقعت دمعة من صدري
تحبو نحو الجنوب،
في الجنوب يا أمي
هناك حيث زرعوا رفات أبي
إخلاص فرنسيس