
تحسين الشيخلي
خيط الحضارة الإنسانية يمتد من مدن الطين في سومر إلى المدن الحالمة لإيلون ماسك، كأنه نهر من الطموح لا يجف، يبدأ من ضفاف الفرات حيث صنع السومريون أول الطين المشوي وبنوا به مدينتهم أوروك، وينتهي اليوم عند حدود المريخ، حيث يرسم الإنسان معالم مدينة جديدة تتحدى الجاذبية وتعيد تعريف معنى الإقامة والعيش.
لم يكن بناء المدينة عبر التاريخ فعل هندسي فحسب، بل كان على الدوام مشروع فلسفي متصل بسؤال جوهري عن الحياة الجيدة. حين كتب طه باقر عن السومريين، أوضح أن بناء أوروك لم يكن بحث عن المأوى، بل عن (تحسين نوعية الحياة). ذلك المعنى البسيط في ظاهره، العميق في جوهره، هو المحرك الخفي وراء كل لبنة شيدت وكل فكرة عمرانية ولدت منذ ستة آلاف عام وحتى اللحظة.
تاريخ المدن هو في جوهره تاريخ الإنسان في سعيه إلى التقدم. فكلما تطورت أدواته وتبدلت معارفه، انعكس ذلك على شكل مدنه ووظائفها. المدن القديمة في سومر وبابل ومصر كانت محصنة بأسوارها، تنغلق على سكانها خشية الغزاة. كانت المدينة آنذاك رمز للأمان أكثر مما هي مساحة للحياة. ومع تطور وسائل النقل وظهور العربات والمراكب، بدأت المدن تتنفس خارج أسوارها، تخرج من انغلاقها نحو الامتداد. ومع الثورة الصناعية الأولى، حين ظهرت الآلة البخارية، تغير إيقاع الحياة وتحول قلب المدينة إلى مركز إنتاجي نابض، وانبثقت الضواحي كامتداد اقتصادي واجتماعي جديد. لم تعد المدينة مجرد موضع سكن، بل صارت كائن متحرك في صلب التغيير.
ثم جاءت الكهرباء، فأنارت الليل، وبدلت مفهوم الزمان داخل المدينة. لم يعد الليل نهاية النشاط، بل بدايته. ومع اختراع السيارة، اتسعت رقعة المدن بشكل غير مسبوق، وبدأت تتشكل أنماط عمرانية جديدة تنظم العلاقة بين المركز والضواحي والمناطق الصناعية والتجارية والسكنية. ومع كل ثورة تقنية، كانت المدن تخلع جلدها القديم وتكتسي آخر يتناسب مع روح العصر.
اليوم، في زمن الثورة الصناعية الرابعة، لا نعيش مجرد تحول عمراني، بل تحول أنطولوجي في معنى المدينة نفسها. لقد غدت المدن الرقمية الحديثة، أو ما يعرف بالمدن الذكية، نتاج مباشر لاندماج الإنسان بالتكنولوجيا. لم تعد المدينة تبنى فقط من الحجر والإسمنت، بل من الخوارزميات والبيانات والمستشعرات. لقد أصبحت المدينة كائن حيوي ذا وعي تقني، يستشعر حاجات سكانه وينظم مواردها بدقة لم يكن يتخيلها أحد في الأزمنة السابقة.
المدن التي حلم بها إيلون ماسك ليست استثناء من هذا المسار التاريخي، بل ذروته المنطقية. فهي استمرار لمشروع أوروك ولكن بأدوات مختلفة، من الطين إلى الكود، ومن المعمار الأرضي إلى المعمار الفضائي. في مشروع نيورالينك و«ستارلنك ومدينة المريخ يظهر الإنسان وهو يمد حضارته إلى الفضاء، يسعى إلى تحقيق الهدف ذاته الذي دفع السومريين إلى بناء مدينتهم الأولى، تحسين نوعية الحياة، حتى لو كانت على كوكب آخر.
التحول هنا لا يقتصر على المادة العمرانية، بل يمتد إلى الفكرة الفلسفية الكامنة وراء المدينة. فالمدينة الرقمية تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الفرد والمجتمع. هي فضاء للبيانات بقدر ما هي فضاء للأجساد. الحياة في المدينة الذكية أصبحت تجربة رقمية متكاملة، نعيش فيها بين الحضور المادي والافتراضي في آن واحد. فالهاتف الذكي أصبح بوابة المدينة، والسيارة الذاتية القيادة شريانها، والذكاء الاصطناعي عصبها المركزي. كل حركة تسجل، وكل سلوك يحلل، وكل قرار يوجه بخوارزمية ما، حتى غدا التخطيط الحضري عملية معرفية قبل أن يكون هندسية.
إن مفهوم تحسين نوعية الحياة الذي ذكره المرحوم طه باقر لم يعد في عصرنا يعني توفير الماء والهواء والمسكن فحسب، بل يعني ضمان السعادة الرقمية، تقليل الاحتكاك البشري غير الضروري، وتعظيم الكفاءة في استخدام الزمن والطاقة والمكان. وقد يقودنا هذا إلى تساؤل فلسفي جديد، هل تتحقق جودة الحياة حقا في المدن التي تدار بالذكاء الاصطناعي وتراقب بكل لحظة؟ أم أن الإنسان بفقدانه لعشوائيته وارتجاله يفقد جزء من إنسانيته التي كانت تجعل من المدينة فضاء نابض بالحياة والتنوع؟
المدينة الحديثة، مثلها مثل الحضارة التي أنجبتها، تسير على حد رفيع بين التقدم والاغتراب. فهي تمنحنا أمان تقني غير مسبوق، لكنها تهددنا بعزلة رقمية متزايدة. وهي، في الوقت ذاته، تعبر عن ذروة الطموح الإنساني للسيطرة على الطبيعة والمكان والزمان. في المدن الحالمة التي يتخيلها ماسك، ستصنع الحياة على مقاس الخيال، وستتداخل الجغرافيا بالفضاء السيبراني، لتصبح الحدود بين الواقعي والمصطنع مجرد اختيار من إعدادات المستخدم.
غير أن ما يبقى ثابت وسط كل هذا التحول هو الغاية القديمة التي أشار إليها طه باقر، السعي لتحسين نوعية الحياة. من أوروك إلى سيليكون فالي، من سومر إلى المريخ، ظل الإنسان يطارد الحلم ذاته، مستبدل أدواته دون أن يغير هدفه. فالمدينة هي مرآة حضارته، وصورة طموحه، ومختبر مستقبله. وإن كانت مدن الطين قد جسدت بدايات الوعي العمراني، فإن المدن الرقمية والفضائية اليوم تجسد لحظة وعي كوني، حيث يسعى الإنسان إلى إعادة تعريف الوجود ذاته من خلال العمران.
وهكذا، حين ننظر من أفق التاريخ إلى المدن التي بنيت من الطين ثم إلى المدن التي تبنى الآن من الذكاء الاصطناعي، ندرك أننا لم نغادر أوروك يومًا. لقد تطور شكلها فقط، بينما ظل معناها قائم في أعماق الوعي الإنساني.. الرغبة في حياة أفضل، مهما تغير المكان أو تبدلت الأدوات. إن المدن التي نبنيها هي نحن، ماضينا ومستقبلنا، ومن خلالها نحفر أثرنا في الأرض والسماء، نكتب قصة الإنسان الذي لا يتوقف عن الحلم، حتى حين يصنع مدنه بين الكواكب.