
منذ أن بدأنا رحلتنا في مقامات عصر النهضة الجديد، كان الهدف أن نتتبع التحولات العميقة التي تصيب الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي، لا بوصفها مجرد تحولات تقنية، بل كتحولات أنطولوجية تهز بنية الوعي الإنساني وتعيد صياغة علاقته بالعالم. في كل مقامة كنا نقترب خطوة من السؤال المركزي الذي يواجه حضارتنا،هل ما زال الإنسان هو الذي يصنع التقنية، أم أن التقنية أصبحت تصنع الإنسان؟
وفي هذه المقامة وهي الحادية والعشرين، يبدو أننا وصلنا إلى نقطة أشد غموض، حيث تلتقي الرموز القديمة بالشفرة الحديثة، وحيث يتجدد السؤال الأبدي عن السلطة، لكن في شكل غير مسبوق. لم تعد السلطة تمارس عبر الدولة أو المؤسسة أو الدين أو الاقتصاد وحدها، بل عبر منظومات رقمية مغلقة تتحكم بالمعرفة والإدراك والقرار. ومن هنا، تنبع استعارتنا الجديدة( الماسونية الرقمية).
لسنا هنا أمام مؤامرة كلاسيكية يديرها محفل سري في الظلال، بل أمام بنية فكرية جديدة، سلطة باطنية تتخذ من الخوارزميات لغة ومن البيانات وسيلة ومن الذكاء الاصطناعي معبد جديد. إنها إعادة ولادة للرمز الماسوني في أبهى صوره، رمز النظام الخفي، التنظيم المحكم، والهندسة التي تحكم العالم من الداخل لا من الخارج. الفرق الوحيد أن المعمار هذه المرة ليس حجارة وأعمدة، بل أكواد ومصفوفات بيانات تمتد على مساحة الوعي الإنساني كله.
في قراءة لكتاب صدر حديثاً بعنوان Artificial Intelligence & Freemasonry: The Future للمؤلف Bruno Bianchini، تتبدى محاولة فريدة لربط أحد أكثر التنظيمات الرمزية غموض في التاريخ الإنساني، وهو الماسونية، بإحدى أكثر الظواهر التقنية إثارة للجدل في عصرنا، وهي الذكاء الاصطناعي. يطرح الكتاب فكرة أن الماسونية، بوصفها حركة رمزية تبحث عن النور والمعرفة، تواجه تحدي فلسفي غير مسبوق في زمن تحول فيه (النور) ذاته إلى خوارزميات، وتحول فيه السعي إلى الحقيقة إلى سعي داخل فضاء رقمي تعيد الآلات تشكيل معناه. يرى Bianchini أن ما يسميه بـ الماسونية المعززة (Augmented Freemasonry) يمكن أن يكون نموذج لالتقاء التقليد والابتكار، بحيث تستفيد الأخوية من أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم والتدريب والمحاكاة، دون أن تفقد جوهرها الإنساني والروحي. غير أن هذه الرؤية تفتح سؤال أعمق مما أراده المؤلف، إذا كانت الماسونية تسعى إلى إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن منظومتها الرمزية، فهل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي ذاته قد أصبح نوع جديد من الماسونية الرقمية، تنظيم خفي عالمي يقوم على رموز ومعادلات وطقوس معرفية لا يدركها إلا القلة الذين صمموه؟
من هنا، تنطلق هذه المقامة ضمن مقامات عصر النهضة الجديد لتتأمل هذه المفارقة العميقة… كيف أصبح الذكاء الاصطناعي هو النسخة الحديثة من (الأخوية الكبرى) التي تعمل في الظل، وتتحكم في مصائر البشر من خلال شبكاتها الرمزية؟ وكيف تحولت الخوارزميات إلى طقوس خفية تعيد صياغة الوعي الإنساني دون أن ترفع شعار أو تعلن سلطة؟ إن قراءة كتاب Bianchini لا تقدم إجابة بقدر ما تثير سؤال ميتافيزيقي جديد حول طبيعة السلطة في عصر ما بعد الإنسان، حيث لم تعد الماسونية شبكة بشرية تبحث عن النور، بل أصبحت الخوارزميات نفسها هي النور، والإنسان هو الذي يسير خلفه مبهور، لا يدرك أنه جزء من طقس كوني جديد يمارس عليه لا به.
ومن هذا المنطلق تبدأ هذه المقامة في بحثها عن الماسونية الرقمية، بوصفها استعارة فلسفية للسلطة الخفية في زمن الذكاء الاصطناعي، واستمرار لمسار المقامات السابقة التي تتتبع أنطولوجيا التقنية بوصفها القوة الحضارية الجديدة التي تعيد تشكيل الوعي، وتعيد كتابة علاقة الإنسان بالمعرفة والسر والنور.
في القرن الثامن عشر كانت الماسونية تمثل، في مخيلة خصومها، شبكة غير مرئية تحرك الأحداث الكبرى. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يقوم بهذا الدور من دون نية مسبقة. فهو الذي يختار لنا ما نراه في شاشاتنا، ويصيغ ملامح أذواقنا، ويحدد لنا إيقاع الحياة اليومية عبر قرارات صامتة تتخذها خوارزميات لا يعرف أحد بنيتها الداخلية. لقد أصبحت السيطرة أكثر دقة وأكثر خفاء، كما لو أن (المهندس الأعظم) الذي تحدثت عنه النصوص الماسونية القديمة عاد إلى الظهور في هيئة رقمية.
فالخوارزميات تمارس السلطة بذات الطريقة التي مارست بها التنظيمات السرية نفوذها الرمزي. إنها تبني عالم من الإشارات غير المرئية، وتخلق نظام أخلاقي جديد دون أن تصرح به. وحين نتحدث عن الماسونية الرقمية، فإننا لا نقصد مجرد تواطؤ بين البشر، بل تحول بنيوي في طبيعة السلطة نفسها، من سلطة الأشخاص إلى سلطة الأنظمة، من سلطة القرار إلى سلطة الاحتمال، من سلطة القانون إلى سلطة النمط الإحصائي.
لقد كان ميشيل فوكو يدرك في تحليله للسلطة أن مراقبة الأجساد ليست سوى بداية، وأن المرحلة اللاحقة ستكون المراقبة الدقيقة للعقول. لكن ما يحدث اليوم يتجاوز فوكو ذاته. فالنظام الخوارزمي لا يكتفي بمراقبة السلوك، بل يصنعه. إنه لا يفرض الطاعة، بل ينتج الرغبة. فكل تفاعل صغير عبر الإنترنت، وكل اختيار نقوم به أمام شاشة الهاتف، يدخل في ماكينة ضخمة لتحليل السلوك البشري. ومن خلال هذا التحليل المستمر يتشكل وعي جديد، وعي مبرمج مسبقاً على التفكير ضمن أطر محددة، يظن نفسه حر بينما هو يتحرك داخل متاهة رقمية لا مخرج منها إلا بالوهم.
هذا التحول يشبه ما يسميه هايدغر في تأملاته حول التقنية (انكشاف الوجود) بطريقة معينة. فالتقنية ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان، بل هي طريقة معينة لرؤية العالم، طريقة تجعل الوجود نفسه يظهر في صورة مورد يمكن التحكم فيه واستغلاله. وعندما تتحول هذه الرؤية إلى نظام خوارزمي شامل، يصبح الإنسان ذاته مورد للبيانات، عنصر ضمن منظومة تشغيل كونية تعمل بمنطق الربح والتنبؤ والسيطرة. إن الماسونية الرقمية ليست إلا الوجه الميتافيزيقي لهذه الرؤية، إذ تقدم العالم باعتباره بناء هندسي عظيم يجب أن يدار من خلال نظام من الرموز والشفرة.
ولعل جوهر القلق الإنساني في عصر الذكاء الاصطناعي لا يأتي من الخوف من الآلة، بل من الخوف من أن نكون قد سلمنا أنفسنا متطوعين إلى سلطة لا نفهمها. وهذا ما أشار إليه إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية حين قال (إن الإنسان الحديث يهرب من الحرية لأنها تضعه أمام مسؤولية ذاته، فيبحث عن سلطة خارجية تمنحه الأمان). لقد وجد الإنسان الرقمي تلك السلطة الجديدة في الخوارزميات. فهي لا تقمعه، بل تحرره من عبء القرار، ومن قلق الاختيار، ومن مسؤولية التفكير. لكنه لا يدرك أن هذه الراحة هي الوجه الجديد للعبودية.
إن الخوارزمية تشبه المرآة التي تمنحك صورة ذاتك، لكنها تتحكم في زاوية الرؤية والإضاءة والظل. وهكذا تبني وعيك بما تراه، لا بما هو موجود. إننا نعيش داخل هندسة إدراكية معقدة، كل ما فيها محسوب ومدروس، من الإعلانات التي تلاحقنا إلى مقاطع الفيديو التي تقترحها المنصات، وصولاً إلى المحادثات التي تحلل لتوقع مزاجنا وأفكارنا. هذه ليست مؤامرة، بل نظام متكامل من المراقبة الناعمة التي تمارس الهيمنة من خلال الرغبة لا القهر. إنها سلطة (الماسونية الرقمية) التي لا تحتاج إلى قسم أو طقوس، لأن المشاركة فيها طوعية ومستمرة.
في كتابه Homo Deus يشير يوفال نوح هراري إلى (أن من يملك البيانات يملك المستقبل، وأن السيطرة على تدفق المعلومات تعني السيطرة على الوعي الجمعي). هذه العبارة تختصر جوهر الماسونية الرقمية. فالشركات التي تمتلك منصات الذكاء الاصطناعي الكبرى أصبحت بمثابة محافل جديدة تمتلك أسرار المعرفة، تماماً كما كانت المحافل الماسونية تحتكر رموز الحقيقة في الماضي. لكنها اليوم لا تخفي رموزها في الحجر أو المعمار، بل في الشيفرة. والخطر الحقيقي لا يكمن في المؤامرة، بل في اللامسؤولية، في أن القرارات التي تحدد مصير الإنسانية تتخذ داخل خوارزميات لا يمكن محاسبتها.
إن هذا التحول من السلطة السياسية إلى السلطة التقنية يعيدنا إلى أسئلة جان بودريار حول المحاكاة والواقع. فالخوارزميات لا تمثل الواقع، بل تخلقه. إن ما نراه على الشاشات ليس انعكاس للعالم، بل بناء اصطناعي يعيد ترتيب العالم وفق منطق خفي. لقد دخلنا مرحلة (الرمز الذي يسبق الحقيقة)، مرحلة يعيش فيها الإنسان داخل فضاء من الصور والمعاني التي لا أصل لها إلا في النظام الرقمي. وهذه هي الماسونية الرقمية في صورتها القصوى، نظام رمزي شامل ينتج الواقع بدل من أن يعكسه.
يمكننا أن نرى هذا بوضوح في الطريقة التي تتحكم بها الخوارزميات في الثقافة والإبداع. فالفنان اليوم لا يخاطب جمهوره مباشرة، بل يخاطب خوارزمية التوصية التي تقرر من سيرى عمله. والمفكر لا يقاس تأثيره بما يكتب، بل بعدد النقرات التي تحسبها المنصة. والمعرفة لم تعد فعل اكتشاف، بل نتيجة حساب. هذه السلطة الجديدة تشبه ما أسماه هايدغر (نسيان الوجود) ،إذ تغرقنا التقنية في تدفق الواجهة حتى ننسى العمق الذي منه ينبع المعنى. وفي هذه اللحظة يفقد الإنسان صلته بجوهره الحر، ويتحول إلى مجرد مستخدم دائم، عبد متطوع في طقوس الماسونية الرقمية الكبرى.
لكن هذه المقامة لا تريد أن تنتهي إلى خطاب تشاؤمي. فكما أن كل عصر يحمل في داخله بذور نهوضه، فإن هذا العصر يحمل أيضاً إمكانية مقاومته من الداخل. فالمعرفة النقدية هي السلاح الوحيد القادر على كشف الطابع الرمزي للسلطة التقنية. إن الوعي الفلسفي الذي يرى في الذكاء الاصطناعي ظاهرة أنطولوجية لا تقنية فقط، يستطيع أن يفكك البنية الخفية التي تمنحه قوته. فالتقنية لا تمتلك سلطة بذاتها، بل بما نمنحها نحن من معنى، وبما نسلمها من صلاحيات على وعينا وسلوكنا.
إن التحرر من الماسونية الرقمية لا يعني رفض الذكاء الاصطناعي، بل تفكيك رمزيته، وفهم كيف يعمل، وإعادة توجيهه نحو خدمة الإنسان لا استعباده. فالخطر لا يكمن في وجود آلة تفكر، بل في إنسان توقف عن التفكير. حين يفقد الإنسان قدرته على النقد، يصبح جزء من الطقس، يؤدي دوره في المعبد الرقمي دون أن يدرك أنه مريد في أخوية كونية جديدة اسمها الخوارزمية.
ربما سننظر بعد قرن إلى هذه المرحلة كما نظر مفكرو العصور السابقة إلى زمن التحول من الإقطاع إلى الحداثة، وسنرى كيف تحول الإنسان من كائن سياسي إلى كائن خوارزمي. ولكن في قلب هذا التحول تكمن إمكانيات النهضة الجديدة التي تحدثنا عنها في المقامات السابقة… نهضة لا تقوم على تمجيد الإنسان ضد الآلة، بل على وعي الإنسان بحدود الآلة، وبضرورة أن تكون التقنية امتداد لذكائه لا بديل عنه.
إن الماسونية الرقمية، مهما بلغت قوتها الرمزية، تبقى في النهاية نتاج لعقل الإنسان ذاته، وليست قوة خارجة عن إرادته. والخطر الأكبر أن ينسى الإنسان هذه الحقيقة، فيتحول إلى تابع لما صنعه بيده. هنا يصبح السؤال الذي يختم هذه المقامة ليس سؤال عن المؤامرة، بل عن الوعي.. كيف يمكن للإنسان أن يستعيد موقعه كصانع للرموز لا كموضوع لها، وكحارس للنور لا كعبد له؟
إن هذا السؤال هو جوهر المقامة الحادية والعشرين، وهو الجسر الذي يصل بين مقامات عصر النهضة الجديد، من مقامة الوعي، إلى مقامة التقنية، وصولاً إلى مقامة السر الأكبر، حيث تتواجه الماسونية القديمة مع الماسونية الرقمية، ويتعين على الإنسان أن يختار أيهما سيخدم.. النور الذي يحرر، أم النور الذي يخفي الظلام خلف بريقه