بقلم: عماد عواودة
من بين الأصوات الشعرية التي جمعت بين التجربة الإنسانية العميقة والرصانة الفكرية، يبرز اسم الشاعر والدبلوماسي الأردني إبراهيم عواودة ، ابن بلدة قميم في شمال الأردن ، ومن مواليد مدينة القدس عام ١٩٥٨م ، رجل عاش الحياة بوجه دبلوماسي مضيء ، وأمسك يراعته ليكتب مشاعره بوجه إنساني مرهف ، يقيم اليوم في جنوب أفريقيا بعد حياة زاخرة في وزارة الخارجية الأردنية ، تدرّج خلالها حتى بلغ مرتبة السفير المفوّض . عاد السفير الشاعر الذي جاب الكثير من العواصم والمدن ليسجل حياته في قصائد خطها على الورق في عدة دواوين شعرية ، فكان ديوان « قلبٌ على ورق ، ١٩٨٥ » ، وديوان « روحٌ حائرة ، ٢٠٠٧ » ، وديوان « وردةُ قلب ، ٢٠٢٣ » ، وله عدة قصائد غير منشورة ، انطلق الشَّاعر « العواودة » من قريتة الأُولى « قميم » ، لا بوصفها مكانًا جغرافيًّا ، بل بوصفها المهدَ الذي يبدأ منه الكائن رحلته نحو الوعي ، وتنقل في أسفار كثيرة في بقاع الأرض فتكونت لديه التجربة والخبرة ، وتحدث بعدة لغات غير لغته الأُم ، مثل الإنجليزية والفرنسية ، والإسبانية ، مما مكَّنه من قراءة الأدب العالمي بلغته الأَصلية ..
بين أَيدينا في هذا المقال قصيدة يعود تاريخها إلى عام ٢٠٠٧ ، يخاطب فيها الشَّاعر حفيده باسلوب شاعري ناعم ، وموسيقى شعرية هادئة ، قصيدة « من جدٍّ لحفيده » جاءت لا لتكون خطابًا عائليًّا عابرًا ، بل تأمّلٌ عميق في الوعي الوجودي للحياة الإنسانية ، فهو يتسلسل من الطفولة حتى الشيخوخة ، من الوهج إلى الذبول ، ومن الألق إلى الرضا ، فيبدأ الشاعر خطابه بهمس رقيق بمرآة الزمن :
« كما الآنَ أنتَ ، أنا كنتُ يومًا
صغيرًا ، ضعيفًا ، رقيقًا ، طريًّا ..»
في هذا المطلع نغمةُ كشفٍ إنساني بطابع وجودي فلسفي حياتي ، فالعبارة لا تقول ؛ « كنتُ طفلًا » ، بل « كنتُ كما أنتَ الآن » ، وكأن الشاعر يبرز العلاقة التي تكاد تُلغي المسافة بين الجيل والجيل ، أو أنه يصنع مواجهة بين الحاضر والماضي في جملة واحدة مضمونها الزمن ، وكأنّ الإنسان كائنٌ متعدّد الطبقات ، يحمل داخله كلّ أعمارِه السابقة بأرشيف زمني موحد ، يلتقي الجدُّ مع حفيده عند نقطةٍ واحدة هي الوجود الحياتي ، فالطفولة في نظر الشاعر ليست مرحلة عمرية بل حالة من الكينونة الإنسانية تتكرّر مع الأجيال . ثم تبدأ القصيدة مسارها المتدرّج عبر مراحل العمر وتزداد معها الموسيقى الشّعرية ايقاعا متناغما :
« ستكبرُ يومًا فيومًا ، وتغدو
غلامًا فتيًّا ، فشابًّا قويًّا
فكهلًا رشيدًا ، فشيخًا حكيمًا
يُنَكَّسُ في الخلق شيئًا فشيَّا .. »
هذا ما يمكن تسميته بـ نظرية الكمال والنقصان ، فالعمر ليس خطًّا صاعدًا على الدوام ، أو نحو الكمال ، بل منحنى يتجه إلى ذروة معينة ليعود بالإنحدار نحو العجز والضعف
وهذا المشهد يُذكّر ، باب التشابه الجوهري ، ما دوّنه الشاعر الإغريقي ميلياغروس على نصبه الجنائزي المنقوش في مدينة أم قيس الأثرية في الأردن : « أيها المارّ من هنا… كما أنتَ الآن كنتُ أنا ، وكما أنا الآن ستكونُ أنت ، فتمتّع إذن بالحياة لأنك فانٍ ».
لا يخفى على السفير الشاعر إبراهيم عواودة هذا الوعي الفلسفي القديم ليعيد صياغته بالعربية في الزمن الحاضر ، غير أنّ الفرق الجوهري بين القولين هو أن ميلياغروس ينطق من عزلة الموت ، بينما « العواودة » ينطق من دفء الحياة ، فالأول يخاطب المارَّ من جانب القبر ، أما الثاني فيُخاطب الحفيدَ في لحظة وجدانية تضج بالحياة والشاعرية . ويستمر الشاعر بقصيدته على نفس السلم الموسيقي فـ يقول :
« لتُمسي مثلي عجوزًا ضعيفًا
تُحاكي يداكَ ذبولَ يديَّا
فتنهضُ يومًا ، وترقدُ شهرًا
وتذكرُ حينًا ، وتنسى مليًّا .. »
الشاعر العواودة يعيد ترتيب الأدوار العمرية ، فهو لا يرسم مشهد الشيخوخة بوصفه انحدارًا جسديًّا ، بل هو تحوّلٌ روحيٌّ نحو الحكمة والصفاء ، إنه الضعف الذي يفضي إلى البصيرة الثاقبة ، والنسيان الذي يمنح الأشياء معنى ما ، والزمن عند الشاعر ليس خطًّا مستقيما إنما هي دورة الحياة ، يعود فيها الإنسان إلى بدايته وتتوالى فيه الأجيال : طفولة وكهولة والشيخوخة ، وبذلك تتعرّى الروح الإنسانية من زخارفها وتبقى الحقيقة .
« وتُمْسي حياتُكَ خَلْفَكَ طَيْفاً
تسَرَّبَ بين الشقوق قَصِيَّا
فتأسى على كلّ يومٍ مَضَى
تركت شُجُونَكَ تَطويهِ طَيَّا ..»
الحياة تظهر كـ طيفٍ ، وتتسرب من بين الشقوق راحلة ، وكأنها الرمل الناعم ينساب من خلال ساعة رملية ، إذن هي خيال يتلاشى كلَّ ما مر عليه الزمن ، والإنسان يتأسى ويتحسر على ما فات من عمره سدى ، وتصوير بان الأيام تطوى بما تحمله من شجن . تتبدّل نغمة القصيدة في المقطع التالي ، فـ يرتفع صوت الحكمة فوق صوت الحنين ويتحول الشاعر من الجَدِّ إلى الرجل الحكيم ، وينتقل من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام ، ومن حفيده الخاص إلى كينونة الإنسانية :
« عشِ العُمْرَ ما استطعتَ يا ولدي
إليه سبيلًا … نديًّا شذيًّا
فما خلق اللهُ هذه الحياةَ
لتعبرَها حائرًا وشقيًّا .. »
القصيدة هنا لم تعد عن الجدّ والحفيد ، بل عن معنى أن تكون انسانا حيًّا ، إنها دعوة إلى العيش الجمالي بالحياة ، أن تعيشها نديّةً وشذيّةً ، لا أن تعيشها عبورًا نحو الفناء ، بل تفاعلا شاعريا بقدر المستطاع ضمن الوجود الذي وهبه الله للإنسان . وينهي الشاعر العواودة حين يبلغ النص ذروته فيقول :
« ولا تنسَ يومًا نصيبك منها
وأحسن لغيرك ما دمتَ حيًّا
تعِشْ هانئًا ما رُزقتَ الحياةَ
وترجعْ إلى حيثُ جئتَ رضيًّا .. »
هنا تكمن ما يمكن تسميته بـ فلسفة الروح في شعر إبراهيم عواودة ، فالموت عند العواودة ليس نقيض الحياة بل امتدادها الطبيعي ، والرجوع إلى « حيث جئتَ » ليس انطفاءً بل اكتمال دورة حياة ، وكأن هذا المعنى يتكئ على الآية القرآنية : « كما بدأنا أول خلقٍ نعيده » ، إنها حلقة الحياة الوجودية ما ان تخبو وتنتهي حتى تعود في جيل جديد ، حياة يعيشها الإنسان في كل ولادةٍ وفي كل موتٍ صغيرٍ داخل حياته اليومية. إبراهيم عواودة في هذه القصيدة لا يكتب شعراً تعليميًّا ، ولا حكمة عابرة ، بل يكتب سيرة الكائن الإنساني في لغة شعرية ، يكتبها بلغةٍ عربيةٍ صافية ، متينة التكوين ، لا تتزخرف بل تنحت صور بيانية ، وما يميز القصيدة أنّها تحافظ على الإيقاع الشعري التقليدي ، وتزرع فيه روحًا حديثة تجعل القارئ يشعر بأن هذا الكلام قيل اليوم ، ولا يتكئ عل موروث الأَمس . لقد تجاوز الشاعر الشكل إلى الجوهر وعمق المعنى ليغدو شعره من ضروب الحكمة ، وجعل من الخطاب الشعري من الجدّي وسيلةً لإعادة ترتيب علاقتنا بالزمن وكيف نكبر ، إنّها قصيدة فيها من العمق الفلسفي أكثر مما تُتلى في صالونات الشعر ، لأنها ببساطة عن الإنسان في مختلف مراحله العمرية ، وهو الكائن الذي يعرف أنه فانٍ ، ومع ذلك يحب الحياة . تكمن عظمة النص ؛ أنه ينقلنا من المألوف إلى الحالة الوجودية ، من الموروث وتراكماته إلى التجربة وغربلتها ، من الخوف من الموت إلى قبول الحياة بما فيها من فناء ،ولعلّ هذا ما يجعل قصيدة « من جدٍّ لحفيده » واحدة من القصائد النادرة التي تُنصت إلى حكمة القدماء ، ثم تعيد صياغتها بلسان الحاضر ، بمنطق المؤمن الراضي ، فتجمع ثقافة اليونان والحداثة العربية في بوتقة شعورية واحدة .
( عماد عواودة ، ابو حازم
الجمعة ٠٧ نوفمبر ٢٠٢٥ ، قميم / الأردن )