بقلم: مسعودة فرجاني
في ظل هيمنة الفضاءات الرقمية على الحواس وتزايد معدلات التفاعل غير المباشر، حيث اختزلت التجارب الإنسانية إلى شفرات إلكترونية ومعلومات مُمررة بسرعة فائقة، قد يبدو الحديث عن المسرح عملاً قديماً أو نوعاً من الرفاهية الترفيهية، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير؛ فالعودة إلى المسرح ليست مجرد عودة للفن، بل هي عودة إلى المنبع الأساسي للتربية المتكاملة والمهارات الحياتية التي لا يمكن لأي تطبيق ذكي أن يعلمها لأطفالنا، إذ أن المسرح ليس مجرد مكان لعرض القصص، بل هو مختبر سري لبناء الشخصية، وقيمته الحقيقية تكمن في قدرته الفريدة على تحويل الطفل من مُتلقٍ سلبي إلى صانع فاعل للتجربة؛ فعندما يقف الطفل على الخشبة، فإنه يمارس مهارات حيوية، أولها الذكاء العاطفي، حيث يُجبر على تقمُّص مشاعر مختلفة وفهم دوافعها، مما يوسع من قدرته على التعاطف مع الآخرين في الحياة الواقعية، كما يعزز التعبير اللغوي والجسدي ويكسر رهبة الحديث أمام الجمهور، وهي مهارة لا غنى عنها للقيادة؛ وعلاوة على ذلك، يُعد المسرح الأداة المثالية لتنمية التفكير النقدي والعمل الجماعي، حيث يتعلم الأطفال كيفية التنسيق، واحترام دور الآخر، وإدارة “الفشل” المباشر والارتجال لمواصلة العرض، مما يُشكل جوهر القائد الفعال القادر على التفاعل الإنساني العميق؛ وفي سياق الجيل الذي يفضل التواصل عبر الواجهات الاصطناعية، يصبح المسرح بمثابة “خشبة خلاص” تُعيد الأطفال إلى التفاعل المباشر، وتكسر حاجز الخجل، وتُحوّل الطاقة المكبوتة إلى إبداع موجه، فهو ليس مجرد فن، بل هو منهج تربوي عملي يضمن أن لا يقتصر ذكاء أطفالنا على التعامل مع الآلة، بل يمتد ليشمل فن التعامل مع النفس والآخرين؛ ولهذا، فإن دعم النشاط المسرحي ليس ترفاً، بل هو استثمار حقيقي في بناء جيل قادر على التعبير عن ذاته بطلاقة، ومواجهة العالم بثقة، والتعاطف مع الآخرين بعمق، ليبقى الطفل هو صانع العالم، وتظل التكنولوجيا مجرد أداة مسخرة لخدمة العقل البشري .