كيف يعيد التطور التكنولوجي تشكيل العلاقة القديمة بين القلم والجمهور
بقلم: مسعودة فرجاني
من النقش على الطين إلى الطباعة بالحروف المتحركة، وصولًا إلى الأصفار والآحاد في الفضاء الحاسوبي، ظلت الكتابة هي البنية الأساسية التي شيدت عليها الحضارة الإنسانية صروحها. هي ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل هي فعل وجودي، ومنهج تفكير وعمق للذاكرة. اليوم، تقف الكتابة على أعتاب عصر جديد، حيث تتصارع أصالتها وتجلياتها الجديدة مع التحديات الهائلة التي تفرضها ثورة التقنية الرقمية والذكاء التكنولوجي.
لم تكن الكتابة في يوم من الأيام أكثر ديمقراطية أو انتشارًا مما هي عليه الآن. لقد فتحت الثورة الرقمية أمام الكاتب أبوابًا لم يكن يحلم بها أسلافه. ففي الماضي، كان الكاتب أسيرًا لدار النشر أو هيئة التحرير. أما اليوم، فبفضل المدوّنات ومنصات النشر الذاتي ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان أي شخص لديه فكرة وصوت فريد أن ينشر عمله ويتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية بضغطة زر. لقد تحول القارئ إلى “مُتلقٍ-ناشر”، وأصبحت الكتابة عملية تبادلية لحظية.
علاوة على ذلك، أفرزت التقنية أشكالًا جديدة من المحتوى تختلف في بنيتها عن المقال التقليدي أو الرواية الكلاسيكية. ظهرت “القصص القصيرة جدًا” التي تناسب طبيعة المنصات السريعة، و”التدوينات الصوتية” التي تعيد للنص المكتوب بعدًا سمعيًا، و”السرد التفاعلي” حيث يشارك القارئ في بناء الحبكة. هذه الأشكال تثبت أن الكتابة لم تمت، بل أنها تتكيف وتتطور لتتلاءم مع الأدوات الجديدة، المدعومة بأدوات مساعدة قوية أصبحت شريكًا لا غنى عنه للكاتب، توفر له الوقت والجهد للتركيز على الإبداع الأصيل.
على الرغم من هذه المزايا، فإن التقنية تحمل في طياتها تحديات خطيرة، قد تهدد مستقبل الكتابة كفن إنساني عميق. المشكلة الكبرى في البيئة الرقمية هي “اقتصاد لفت الانتباه”، الذي يدفع الكاتب إلى الابتعاد عن المعالجة العميقة والمقالات الطويلة المعقدة، واللجوء إلى العناوين الصارخة واللغة السطحية؛ فقط ليضمن “نقرة” من القارئ. يهدد هذا التوجه بتحويل الكتابة من فكر إلى سلعة استهلاكية سريعة الزوال.
ويُعد ظهور نماذج اللغة الكبيرة، والتي تقوم على التوليد الآلي للنصوص، هو التحدي الأهم على الإطلاق. يمكن لهذه الأدوات أن تنتج نصوصًا متماسكة ومقنعة في دقائق معدودة. وهنا يطرح السؤال الوجودي: إذا كان بإمكان الآلة أن تكتب “جيدًا”، فما هي القيمة المضافة لكتابة الإنسان؟ الخطر ليس في أن يكتب الذكاء الصنعي، بل في أن يؤدي الاعتماد عليه إلى ضمور ملكات التفكير الناقد والإبداع لدى الكاتب البشري. يجب أن نتذكر أن الآلة تحاكي النصوص الموجودة، بينما الإنسان يخلق نصوصًا تعبر عن الوعي، والتجربة الحقيقية، والتعقيد العاطفي؛ وهي أمور لا يمكن للخوارزميات الوصول إليها بعد.
فبينما يحاول القارئ التركيز في مقال، يأتيه إشعار أو وصلة تشعبية تشتت انتباهه. هذا يضع الكاتب في مأزق، فهو يكتب في بيئة تُشجع على السطحية وقلة التركيز، مما يؤثر سلبًا على قدرة القارئ على استيعاب النصوص المعقدة
لا يمكننا أن نعود إلى عصر ما قبل التقنية، ولا يجب أن نفعل. المستقبل يكمن في إقامة شراكة واعية ومسؤولة بين الكاتب والأداة التقنية. يجب أن يتحول دور الكاتب البشري ليصبح بانيًا عظيمًا للفكرة، ومصممًا للسرد. يمكن للذكاء الصنعي أن يكتب ما يُشبه الكتابة، لكنه لا يستطيع أن يكتب عما يُشبه أن تكون إنسانًا. مهمة الكاتب هي ضخّ الروح البشرية والتجارب الشخصية والمواقف الأخلاقية والفلسفية، التي لا تستطيع الآلة استنساخها.
ويجب على المنصات والمؤسسات الثقافية أن تقاوم إغراء “النقرات السريعة” وأن تكافئ المحتوى العميق والجودة العالية. وعلى الكاتب نفسه أن يتمسك بمعايير الجودة اللغوية والمعرفية، ويرفض الانصياع الكامل لمتطلبات الخوارزميات. يجب أن يُستخدم الذكاء الصنعي لتسهيل عملية الكتابة (كالبحث، والتلخيص، والتدقيق)، وليس ليحل محلها. فالقلم والآلة الكاتبة والحاسوب كلها أدوات؛ ولكن الوعي المبدع هو الذي يحدد قيمة العمل.
إن تجليات الكتابة في العصر الرقمي هي دليل على مرونتها وقدرتها على البقاء، لكن تحديات التقنية، خاصة الذكاء الصنعي، تضعها أمام امتحان حقيقي. إننا في سباق بين سرعة الآلة وعمق الروح. وفي هذا السباق، لا يمكن للكتابة أن تنتصر إلا إذا أصر الكاتب على أن يبقى مصدر الأصالة والتفكير الناقد، وأن يرفع كلمته من مجرد معلومة إلى قيمة إنسانية خالدة.