
بقلم د. عبير خالد يحيي
في البدء لم تكن الكلمات…
كان الماء. وكان الصمت. وكان ما يشبه النفس، ولم يكن قد تهيّأ بعد ليتحوّل إلى صوت.
ثم جاء الصوت، ليس من حنجرة، ولا من فم، وإنما من حركة الحياة نفسها وهي تتجمّع في ظلمة دافئة تسميها الأرض “رحمًا”.
هنا، عند الحدود الشفيفة بين الغيب والظهور، بين الدم والصوت، تتولد هذه الثلاثية:
ثلاثة أصوات، ثلاثة أبواب مفتوحة على احتمالات الوجود:
- صوتٌ لم يولد بعد، يأتينا لا من فم طفل، بل من ماءٍ يتهيّأ ليكون جسدًا.
- أمٌ تنتظر الضوء، لا كوظيفة بيولوجية، بل ككائن روحي يعيد ترتيب جسده ليُولد من جديد مع وليده.
- ولحظة ثالثة، هي طَور الخلق نفسه: حين يتداخل صوت الداخل مع صوت الخارج، ويصبح المسرح كلّه رحمًا ينشقّ على الضوء.
ليست هذه نصوصًا عن الولادة، بل عن الخلق:
حين يجرّب الصوت جسده لأول مرة،
وحين تكتشف الأم أن الولادة ليست من جسدها فقط، وإنما من قلبها، ومن خوفها، من صمتها، ومن قدرتها على أن تحتمل اللحظة التي يتحد فيها الخوف بالعشق، وتنفتح فيها الأرض على معنى لا نهائي من الحبّ.
هكذا كتبت هذه الأصوات نفسها، وهكذا اجتمعت في هذه الثلاثية، لا لتُروى، وإنّما لتتردّد في الذاكرة…
كنبضة أولى لم تُنسَ بعد، ونورٍ هو كل ما نملك قبل أن نبدأ الميلاد.
المونودراما الأولى:
“صوتٌ لم يولد بعد”
(يُسمَع نبضٌ خافت، كأنه طبولٌ تحت الماء. ضوءٌ أزرق دافئ. الجنين—لا يُرى بوضوح، يُسمَع صوته فقط.)
الصوت:
“أنا هنا…
في الهامش الأخير من العالم الأول،
أتنفّس ماءً لا يغرقني،
وأسمع دقّاتٍ لا أعرف مصدرها،
لكنها تشبهني…
قد تشبه الخطوة التي تتكوّن فيّ، ولم أخطُها بعد.
(يصمت قليلًا، كأنه يمدّ يده إلى جدار الرحم.)
“يقولون إنّي آتٍ إليكم،
لكن الحقيقة أنكم أنتم من يأتون إليّ كل ليلة:
تلمسون جدارَ دفئي،
وتنادون اسمي الذي لا أعرفه،
وتسألونني أن أُسرِع…
أن أُتمَّ سرّي،
أن أخرج،
أن أخلع هذا الماء،
وهذه الظلمة الرحيمة.”
(ضحكة صغيرة، طفيفة، كأنها فقاعات.)
“أتعلمون؟
أنا لا أخاف الولادة…
أنا أخاف الظهور.
فالظهورُ فصلٌ آخر،
وأوّل تحدٍّ لكل ما اعتدته،
فيه تُختبر هشاشتي:
أتعلّم كيف أختبئ دون رحم،
وكيف أبكي دون ماء،
وكيف أحبُّ دون أن أسمع مسبقًا دقّاتِ من أحبّ.”
(يرتجف الضوء.)
“في الأيام الأخيرة،
أقيس المسافة بيني وبينكم بأصابعي الصغيرة.
أركلُ قليلًا لأُخبركم أني فهمتُ الدرس:
أن الضوءَ ينتظرني،
وأن وجوهكم، حين تقترب مني،
ستكون أولَ نصٍّ أقرأه في العالم.”
(نبضة تشتدّ.)
“لكن مهلًا…
أنا أيضًا أنتظركم.
أنتظر أن تفتحوا لي بابًا لا يوجِع،
أن تضعوا قلَقَكم خارج الغرفة،
أن تُنصِتوا لمجيئي إنصاتكم للنغمة الأولى في أنشودة الخلق.”
(يتحوّل الضوء إلى بياض خفيف.)
“سأخرج… نعم.
لأن حكايتكم بي بدأت.
والوقت اكتمل، يكاد يناديني باسمي الأول
وحكايةُ الطفل لا تُكتب في الدفاتر،
تُكتب في الضلوع،
وفي ارتجافِ يدٍ ستلتقطه
كأنه آخر صحيفة يتركها الخالق مفتوحة.”
(نبضة واحدة—ثم صمت دافئ.)
“أنا آتٍ…
لا لأكمل عددَ الأنفاس في بيوتكم،
ولا لأضيف حياةً إلى الحياة
أنا آتٍ لأن شيئًا في هذا العالم
لا يكتمل إلّا بي،
ولأن سرًّا قديمًا
يدفعني للخروج من ماء الغيب
إلى هواء اسمي.
وحين أنشقُّ عن ظلمة هذا الرحم،
سأحمل إليكم برهانًا صغيرًا
على أن الخلق لا ينتهي،
وأن كلّ ولادة
إعادةُ كتابةٍ للكون
على صفحةٍ طريةٍ من لحمٍ ونور.
هذه هي خطوتي الأولى…
وها أنتم هناك،
تنتظرون أن أبدأها.
انتظروا صرختي الأولى
أنا آت..
أنا قادم..
وهذا العالم يبدأ بي.”
المونودراما الثانية : “أمٌّ تنتظر الضوء”
(ظلام دافئ. ضوء خافت يشبه سراجًا قديمًا. الأم في منتصف الخشبة، لا تُرى كاملة؛ نصفها في الضوء، نصفها في الظل. تُسمَع أنفاسها قبل صوتها.)
الصوت – الأم:
“ها أنا أيضًا…
أقف عند الهامش الأخير من عالمي،
وأضع يدي على هذا الرحم
وألمس بابًا لا أعرف ما وراءه،
بابًا يُفتح كل يوم قليلًا،
ثم يُغلِق عليّ خوفي…
وعليك.”
(تتنفّس بعمق، كأنها تنتظر أن يحرّكها نبض الجنين.)
“أسمعُ ركلاتِكَ الصغيرة…
كلُّ ركلة رسالة،
كلُّ ارتجافة نداء،
وأنا أقرأُكَ قبل أن ترى وجهي،
وأحفظُ خطواتِك قبل أن تتعلّم المشي.
يا صغيري…
أنت تقرأُني منذ كنتُ ماءً حولك.”
(تقترب يدها من بطنها، كما لو أنها تحمي شعلة.)
“يقولون إنك قادم…
لكن الحقيقة أنني أنا التي تأتيك،
كلَّ ليلة،
حين أُُصغي إلى نبضك
كأنه آية تتنزّل على قلبي،
وحين أستشعر حضورك
يتكوّر في داخلي
مثل جملة لم أجرؤ على نطقِها من قبل.
أنا خائفة…
نعم، خائفة.
ليس منك،
بل من اللحظة التي تضعُك في يديّ،
وتضع العالم في صدري،
وتمنحني مهمّة
لم أصلِّ استعدادًا لها بما يكفي.”
(الضوء يزداد دفئًا، ويقترب منها.)
“في الأيام الأخيرة،
أتلمّسُ الطريق إليك
كما يتلمّسُ الأعمى أوّلَ نور.
أعدُّ لك مكانًا على صدري،
وأحفرُ داخلي مساحةً
لنُهضتِك الأولى،
لسقوطِك الأول،
لدمعتِك الأولى
ولكلِّ ما سيعلّمني سرَّ أن أكون أمًّا.
أريدك أن تأتي
من غير وجع،
من غير خوف،
من غير ثقل في الهواء…
وأعرف أن الولادة
لا تمنح وعودًا سهلة.”
(عينها ترتجف، يدها تستقرّ على بطنها بثبات جديد.)
“أنا أنتظرُك…
أنتظر أن تفتح لي ظهوري من جديد،
أن تعيدَ ترتيب روحي
على مقاس قلبك،
أن تمنحَ أيامي معنىً
كنتُ أنكر أنني أفتقده.”
(يصعد نبض الجنين، فيرتجّ الضوء معه.)
“وحين يقترب الوقت…
أفكّر:
هل سأعرفُك فورًا؟
هل سيعرفُني قلبك
من دون أن أرشدَك إلى اسمي؟
أم سنقفُ نحن الاثنان
على حافة الظهور
نبحث عن بعضنا
كما يبحثُ الضوء عن أوّلِ ظل؟”
(يقوى الضوء، كأنه شقّ ينفتح.)
“يا صغيري…
حين تخرجُ إلى الهواء
لن أطلبَ منكَ شيئًا…
سوى أن تبكي.
نعم…
بكاؤك أوّلُ لغتِك،
وأولُ يقيني أنك وصلت.”
(تبتسم وهي تمسح دمعة بالعتمة.)
“أنا آتية إليك…
لا لأكمل عدد الأيام في عمري،
ولا لأضيف طفلًا إلى الدنيا
إنما لأستعيد نفسي فيك،
لأولدَ مرّةً أخرى
من خلالِك،
كما تولدُ أنت
من خلالي.”
(الضوء يغمرها ببطء.)
“وحين تنشقّ ظلمةُ الرّحم عن نورِك،
وحين يعلو صوتك الأول،
سأعرفُ أنَّ الكونَ
عاد فتىً صغيرًا للحظة،
وأنَّ قلبي
صار بيتًا يليقُ بك.
انتظر صرختَك…؟
لا يا صغيري،
أنا التي تنتظر أن يكتملَ صوتي بك.”
المونودراما الثالثة:
“حين يتكلّم الماء”
(ظلام مائيّ…
ضوء يرتجف في منتصف الخشبة، ثم ينفتح كصدفة تنشقّ عنها لؤلؤة.
المسرح نصفه ماء، نصفه نور.)
صوت الجنين (من العمق):
“أنا هنا…
أقتربُ من الحافّة الأخيرة للماء.
ثمّة شيء يناديني…
شيء يشبه اسمي قبل أن يُنطق.”
صوت الأم (من الضوء):
“وأنا هنا…
أقف على حافة حياتي القديمة،
وأشعر بكَ تقترب
كآية تتشكّل في صدري.”
(يتحرّك الضوء مع النبض، فيقترب الصوتان من بعضهما دون أن يلتقيا.)
الجنين:
“أسمعُكِ…
صوتُك يمشي في دمي
قبل أن أرى فمك.”
الأم:
“وأنا أعرف ارتجافتك
حتى قبل أن أعرف وجهك،
كأنك كتبتَ حضورك
في أوّل نبضةٍ في قلبي.”
(تنشقّ دائرة مضيئة بين الطرفين، كجسر نور.)
الجنين:
“يقولون إنني قادم…
لكنّي أشعر أنّكِ
القادمة إليّ كلّ ليلة،
تتفقّديني،
وتحملين خوفك إليّ
كما يحمل الموجُ سرَّ المدّ إلى الساحل.”
الأم:
“أنا خائفة، نعم…
لكن خوفي هو طريقتي في أن أحبّك،
طريقتي في أن أقولَ لك
إنّي مستعدّة لأكون أوّلَ أرض
تخطو عليها.”
(يتسع الجسر الضوئي.
يتقاطع صوتاهما لأول مرة.)
الجنين:
“أخافُ الظهور…”
الأم
“وأخاف أن أستقبلَك ناقصة…”
الجنين:
“أخاف أن أسقط…”
الأم:
“وأخاف ألّا أكون يدًا كافية
لترفُعَك.”
(لحظة صمت…
ثم يلتقي النبضان.)
الجنين:
“لكنني…
أتعلّم أن أخرج.”
الأم:
“وأنا…
أتعلّم أن أُولد.”
(إضاءة قوية، كأن الرحم نفسه يتّسع.)
الجنين:
“ها أنا أقيس المسافة بيني وبينك
بأصابعي الصغيرة…”
الأم:
“وها أنا أحفر في صدري مساحة
لخطوتك الأولى…”
الجنين:
“عندما أبكي،
اعرفي أنّ البكاء لغتي الأولى.”
الأم:
“وعندما تبكي،
سأعرفُ أنكَ وصلت…
سأعرفُ أنّ اسمي اكتمل بك.”
(الضوء يرتفع – الماء ينخفض – نبضة قوية واحدة.)
الجنين:
“أنا آتٍ…
لا وليدًا فقط،
أنا آتٍ…
كمعنى يخرج من غيبِك.”
الأم:
“وأنا آتية…
لا كأمّ وحسب،
أنا آتية..
كروح تعود لنفسها
حين تراك.”
(لحظة الظهور.
الضوء ينفجر بنعومة.)
الجنين + الأم (معًا، لأول مرة):
“هذا هو بابُ الخلق…
نفتحه نحن الاثنين.
هذه هي ولادتنا…
ولادةُ من خرج،
وولادةُ من احتوى.
نحن الاثنان…
نأتي الآن.”
(ستار… نورٌ يشبه الفجر يغمرهما.)
#دعبيرخالديحيي مرسين – تركيا 17/ 11/ 2025