
أ. د. إسماعيل نوري الربيعي
يقدّم الشاعر نبيل ياسين في نصه قصيدة تشبه المانيفستو، تتكئ على التكرار القاسي لكلمة “ملفق” بوصفها علامة انهدام الرموز الكبرى وانكشاف خواء البنية الوطنية. وليس النص مجرد تذمر سياسي أو خطاب احتجاجي، بل هو على مستوى أعمق صياغة شعرية لجرح نفسي يصيب الذات العراقية التي فقدت موضوع انتمائها، أي الوطن، فصارت معلقة بين فقد أصلي ووهم بديل. من هنا فإن مقاربة النص عبر منهجية لاكان لا تعني إسقاط نظرية جاهزة، بل كشف الآليات التي تعمل في خلفية القول الشعري وتجعل تكراره وأسلوبه جزءا من لاوعي يتكلم عبر اللغة. المدخل في قراءة لاكانية يبدأ من ثلاثية لاكان الأساسية: المتخيل والرمزي والواقعي. وهذه الثلاثية تكوّن الحقل الذي تتحرك فيه الذات، فهي تتماهى في المتخيل، وتتموضع في الرمزي، وتصطدم بما لا يمكن تمثله في الواقعي. في نص نبيل ياسين تتفكك هذه الحقول جميعها، فيتحول الوطن من رمز جامع إلى مرآة مكسورة، ومن متخيل يوحّد الذات إلى متخيل ممزق، ومن واقعي يمكن تحمله إلى واقعي فاجع لا يمكن إدراكه إلا بصدمة. هذا التفكك هو الذي يجعل كلمة “ملفق” حكما شاملا على البلاد ومكوناتها كافة.
المتخيل وتمزق صورة الوطن
المتخيل عند لاكان هو حقل الصورة، إنه فضاء المرآة الأولى التي يتشكل فيها وعي الذات بذاتها عبر التماهي مع صورة كاملة رغم وهنها الواقعي. الوطن في الوعي الجمعي يؤدي هذا الدور: إنه صورة كلية نتمثل فيها ونرى أنفسنا من خلالها ونستمد منها إحساسا بالتماسك. لكن الشاعر يصف هذه الصورة بأنها “ملفقة” أي مصنوعة بصورة اصطناعية، غير أصلية، مفبركة. هذا التفكيك يضرب المتخيل في صميمه، لأن المتخيل لا يعيش إلا بوصفه وهما ضروريا يضمن تماسك الذات. حين يقول الشاعر “النشيد الوطني ملفق” فهو لا يتحدث عن نص أو لحن، بل عن المرآة ذاتها التي نردد أمامها هويتنا. النشيد في اللاوعي الشعبي هو صورة الذات الجماعية، فإذا كان ملفقا فإن الذات ذاتها تفقد انعكاسها. وكذلك “اليوم الوطني ملفق” أي إن الطقس الذي يمنح الجماعة شعورا بالاستمرارية مجرد قشرة لا تعكس التاريخ الفعلي. المتخيل هنا لم يعد مرآة، بل صار سطحا معتما، لا يعيد إلينا وجوهنا، بل يعيد إلينا فراغا، ولهذا يشعر الشاعر بأن البلاد نفسها أصبحت ملفقة لأن صورة الوطن لم تعد قادرة على ترتيب الذات في داخلها. في القراءة اللاكانية، انهيار المتخيل لا يقود فقط إلى التشظي، بل يفتح الباب أمام عودة الواقعي بصورة عنيفة. لهذا ليس غريبا أن يكتب الشاعر النص كله بحدّة تقارب الصرخة، فالصوت هنا ليس صوت شاعر يراقب التحولات من الخارج، بل ذات تتلمس فراغ مرآتها وتصرخ في الظلام.
الرمزي وانهيار البنية التي تمنح المعنى
الرمزي في تصور لاكان هو حقل اللغة والقانون، إنه النظام الذي ينظم العلاقات بين البشر ويمنح الأشياء هويتها. الوطن بوصفه قانونا لا يقوم على الصورة فقط، بل على انتظام مؤسسات، على تاريخ، على شرعية، على سردية مشتركة. لكن الشاعر يعلن أن هذه البنية كلها ملفقة: العلم، الطبقة السياسية، الثقافة، الصحافة، المواطنة، الحقوق، وحتى “تاريخ البلاد الجديد”. هنا يتجاوز النص نقد الشكل أو النخب، ليصل إلى تمزق في الحقل الرمزي نفسه. فحين ينهار الرمزي لا يعود للغة سلطة على ضبط العالم، ولا يعود القانون قادرا على تثبيت معنى. والمواطن الذي يعيش في هذا الحقل لا يعود يعرف موقعه لأن موقعه يستمد من العلاقة مع الرمزي. لهذا يقول الشاعر “المواطنة ملفقة” أي إن العلاقة بين الذات والدولة لم تعد مؤسسة على قانون، بل على فراغ. و”حقوق المواطنة ملفقة” أي إنها كلمات بلا فاعلية، كلمات فقدت رمزيتها. إن لاكان يؤكد أن الذات لا تكون إلا داخل اللغة، وأن القانون الذي يؤسس الذات ليس خيارا، بل شرط وجودها. فإذا انهار هذا القانون صارت الذات متشظية تبحث عن معنى ضائع. وهذا ينسجم بشكل واضح مع نبرة الشاعر التي تبدو أقرب إلى الاعتراف بخيبة وجودية شاملة. ليست المشكلة في فساد طبقة سياسية جديدة فقط، بل في رمزية كاملة تم استبدالها ببديل مزيّف. النقطة اللاكانية الجوهرية هنا هي أن الذات حين تفقد سندها الرمزي تبدأ بالتحرك في دائرة متخيل هش، تحاول أن تخلق لنفسها بدائل وصورا، لكنها تصطدم مرة بعد أخرى بفشل هذه البدائل. لهذا يصبح التكرار في النص “ملفق … ملفق … ملفق” نوعا من “المتعة السوداء” أو الجويصانس التي يصفها لاكان. فالتكرار المتألم هو أيضا لذّة، وإن كانت لذة جارحة، لأنها تمنح الذات لحظة مواجهة مع الحقيقة التي ترفض الاعتراف بها.
الواقعي كجرح لا يمكن ترميمه
الواقعي في منهج لاكان ليس الواقع الخارجي، بل ما لا يمكن تمثيله داخل رموز اللغة أو صور المتخيل. إنه الفجوة التي تستعصي على القول. في نص نبيل ياسين، الواقعي هو الوطن المفقود، الوطن الذي لا توجد لغة تصفه، ولا صورة تعيده، ولا رمز يعوضه. لهذا يظهر في النص بوصفه انعداما تاما: كل شيء ملفق، أي لا شيء أصلي، لا شيء حقيقي، لا شيء واقعي بالمعنى اللاكاني. حين تنهار الطبقة الرمزية والمتخيلة لا يبقى إلا الواقعي. لكن الواقعي لا يمكن أن يتجسد، لذلك يظهر في النص كفراغ هائل، كجرح مفتوح. فقدان الوطن ليس حدثا سياسيا عند الشاعر، بل هو حدث وجودي يصيب الذات في أعمق نقطة فيها. الوطن ليس أرضا أو علما أو يوما وطنيا، بل هو ما يشبه عند لاكان “الموضوع أ” وهو الموضوع الذي لا يطال لكنه يحرّك الذات ويدفع رغباتها. وحين يفقد هذا الموضوع الأصلي، تبقى الرغبة بلا مرساة، فتتحول إلى قلق، إلى ضياع، إلى توتر داخلي يعبر عنه النص بطوفان الكلمات. الواقعي يظهر أيضا في وصف الشاعر لمشهد شامل من التزييف. لكنه لا يقدّم هذا التزييف بقالب تحليلي، بل بقالب يشبه الرثاء، وكأن الذات في مواجهته لا تستطيع إلا أن تكرر، وأن تنطق بما هو أصلا غير قابل للنطق. وهنا تكمن قوة النص: إنه خطاب ذات وصلت إلى حدود ما يمكن قوله، فبدأت تلامس الواقعي عبر السرد التكراري. وهذه آلية لغوية معروفة في التحليل اللاكاني حيث التكرار يشير إلى نقطة يستعصي التعبير عنها بشكل مباشر.
خيبة الأمل الكبرى بوصفها انهيار علاقة الذات “بالآخر الكبير“
الآخر الكبير في لغة لاكان هو ذلك المرجع الذي يمنح الذات القدرة على الكلام، إنه القانون، الدولة، التاريخ، اللغة، السردية العامة التي ينتمي إليها الفرد. الوطن في النص يمثل هذا الآخر الكبير، لكنه صار ملفقا. أي إن الآخر الكبير أصبح هو نفسه فاقدا لشرعيته. وعندما ينهار الآخر الكبير تنهار معه قدرة الذات على الاستقرار لأن الذات تحتاج مرجعا تتحدث إليه، تتموضع أمامه، وتفهم نفسها عبره. خيبة الأمل التي يتحدث عنها الشاعر ليست خيبة عاطفية، بل خيبة في “الآخر الكبير” الذي خان وظيفته الأساسية. حتى النشيد الوطني، وهو أحد أقوى تمثلات الآخر الكبير في اللاوعي الجمعي، صار ملفقا. هذا يجعل الذات في حالة تيه، لأن الآخر الذي يجب أن يضمن حقيقة العالم بات زائفا. وهنا تتجلى خيبة الشاعر الكبرى: ليس الوطن فقط ضاع، بل ضاع معه النظام الرمزي الذي يجعل الوجود ممكنا.
اللغة بوصفها مسرحا للاوعي في النص
من الناحية الشكلية يعتمد النص على تقنية سمتها الأساسية هي التكرار. والتكرار في القراءة اللاكانية ليس مجرد أسلوب، بل هو أثر للاوعي، لأنه يعبر عن شيء لم يتم تفريغه بالقوله مرة واحدة. كل كلمة “ملفق” هي محاولة فاشلة لقول ما لا يقال، محاولة لإعادة الإمساك بشيء انفلت. ومن هنا فإن النص نفسه يصبح فعلا علاجيا، نوعا من التداعي الحر الذي يحاول عبره الشاعر أن ينطق الجرح. الاقتصاد اللغوي الشديد في النص يمنحه قوة إضافية. كل جملة قصيرة، قاطعة، تشبه ضربات مطرقة. وهذا الأسلوب يذكّر بآلية القطع التي تظهر عند الذات حين تواجه صدمة، فهي لا تستطيع أن تنتج لغة متصلة، بل لغة مفصولة، متقطعة، تخرج في قبضات متتالية. النص هنا يصبح تجليا للاوعي الذي يتكلم من فتحة الألم.
البلاد بوصفها ذاتا جريحة
في الخلاصة، نص نبيل ياسين ليس نصا عن “بلاد ملفقة” فقط، بل عن ذات مشطورة بفعل انهيار المتخيل والرمزي وصعود الواقعي كجرح عار. إنه نص يقارب ما يسميه لاكان “الألم الذي يتكلم” حيث اللغة تخرج لا كي تصف الواقع، بل كي تكشف استحالة تمثيله. الوطن عند الشاعر ليس مجرد مفهوم سياسي، بل هو فضاء الهوية. وعندما يصبح الوطن ملفقا فإن الذات نفسها تصبح ملفقة، أي معلقة بين واقع لا يحتمل ورمز لا يصدق. والنص بكليته يعبّر عن هذه المسافة، تلك الهوة التي يسميها لاكان “فجوة الذات”. وهكذا، فإن تحليل النص بمنهجية لاكانية يكشف أن نبيل ياسين لا يندب وطنا فقط، بل يصف حالة وجودية تقترب من انهيار العلاقة بين الذات والعالم. إنه نص عن وطن ضاع، ورمز انهار، ومرآة تكسرت، وذات تحاول أن تعيد بناء نفسها عبر الكلمات، ولا تجد إلا أن تعترف بأن “كل ما في البلاد ملفق، والبلاد نفسها أصبحت ملفقة”. هذا الاعتراف ليس نهاية، بل بداية تشكّل جديد، لأن اللحظة التي يعترف فيها اللاوعي بجراحه هي اللحظة التي يصبح فيها التحول ممكنا، حتى لو ظل الوطن في النص جرحا مفتوحا ينتظر معنى لا يأتي.
تعريف موجز؛ الأستاذ الدكتور إسماعيل نوري الربيعي، أكاديمي متقاعد، وندسور أونتاريو، كندا