حاورته: أ. هناء بلال
كان اللقاء بالدكتور علي محمود حجازي لقاءً يفيض ودًا ودفئًا، كأننا دخلنا بيتًا لا مكتبًا، وجلسنا بين أهل لا أمام روائي كبير. منذ اللحظة الأولى كانت الجلسة مجلسًا عائليًا رحّابًا تتناثر فيه الكلمات بخفة، وتطير على جناح فراشة بين سؤالٍ وآخر، محمّلة بذلك الوقار الذي يميّز حضوره.
في حديثه، كان الزمن يلين، واللغة تصبح أكثر شفافية. ومع كل قصة كان يرويها، كانت الجلسة تأخذنا إلى عوالم الطبيعة الأولى في بلدته قبريخا؛ إلى الأزقة المائلة نحو الضوء، إلى الحقول التي تتنفس الفصول، وإلى نسائم المساء التي تحمل رائحة الزيزفون كما لو أنها رسالة من طفولته البعيدة.
في حديثه أخذنا الى تلك البقعة الجنوبية التي تحرسها الذاكرة، فهمنا أن الكاتب الذي يجلس أمامنا لا يكتب بالكلمات فقط، بل يكتب بالأرض والهواء والرائحة والصورة… وأن كل حكاية لديه لها جذور، تمامًا كما لأشجار الزيزفون جذور تمتد عميقًا في تراب الجنوب.
هكذا بدأ الحوار مع الدكتور علي محمود حجازي؛ لا من سؤالٍ رسمي، بل من روحٍ تشبه الشعر، ومن جلسةٍ حملتنا قبل أن نبدأ إلى عالمه الداخلي… عالمٍ يرافقه في كل نصّ يكتب، وفي كل طفل يخاطبه، وفي كل امرأة يجعلها في كتاباته وجهًا للمقاومة والذاكرة.
اليوم بات الطفل محاطًا بالشاشات ومنفتحًا على العالم عبر وسائل التواصل. كيف ترى تأثير هذه الوسائط على خيال الطفل ووقته ؟
لا يمكننا ان نغفل الدور المتسارع الذي باتت تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في حياة الطفل فهي تنهب وقته وتفتح له بوابات واسعة على العالم لكنها لا تمنحه دائما ما يبني وعيه . فهذه الوسائط تقدم له كل شيء جاهزا وفي لحظات قصيرة ما يقلل من حاجته الى التخيل او البحث او طرح الاسئلة .
لقد أصبحت منصات التواصل منافسا شرسا للكتاب وللاسف ينتصر هذا المنافس غالبا بالسرعة و السطحية وهنا تكمن مهمتنا نحن الكتاب كيف نجعل الأدب اكثر جاذبية وكيف نعيد للطفل شغفه بالاكتشاف بعيدا عن الاملاءات الرقمية.
تحدثتم سابقا عن رسالة وصلتك من الملحق الثقافي الفرنسي حول كتابك “وفاء الزيتون ” ماذا شكلت لك تلك الرسالة ؟
حين تُرجم كتابي وفاء الزيتون إلى الفرنسية، فوجئت برسالة رسمية من الملحق الثقافي الفرنسي، موجّهة إلى رئاسة الجامعة اللبنانية، لأنه كما قال لم يكن يعرفني شخصيًا.
في تلك الرسالة، شكرني لأنني أعدت إحياء مقولة لافونتين، من وجهة نظر مختلفة مغايرة فالصرصار في لبقصة يمثل نموذجا لا يقتات على الاخرين بل يعيش بكرامة وأشاد بما حملته من رؤى وأفكار. وقد سلطت الضوء على روحية الغرب المادية و روحية الشرق الجمالية و الهادفة الى ابراز وظائف المخلوقات التي زودها الله بها هذه الرسالة لم تكن مجرد تقدير لشخصي، بل كانت اعترافًا بجماليات الأدب العربي وقدرته على العبور خارج حدوده. لقد أكدت لي أن الأدب الحقيقي لا يحتاج وسيطًا… يكفيه صدقه ليصل.
نلاحظ اقبالا كبيرا من طلاب الدراسات العليا على أدب الاطفال برأيك لماذا هذا الاندفاع ؟
ثمة تساؤلات كثيرة تُطرح حول هذا التوجه
هل لأن المجال مغرٍ؟
أم لأنه نادر فيفضّله الباحثون ليحققوا شهرة أسرع؟
أم لأنه يبدو بسيطًا فيظنونه لا يحتاج إلى مقومات أدبية عالية؟
أم لأن الطفل فعلًا يستحق هذا الاهتمام؟
ان أدب الأطفال مجال واسع وغني وجديد، فيه متعة كبيرة للكاتب، لأنه يقوده إلى ممرات لا تنتهي من الخيال. الموضوعات التي تعالج عالم الكبار أصبحت تقليدية، أمّا الكتابة للأطفال فهي اكتشاف دائم، وفيها فرصة لتأسيس وعي جديد للأجيال.
هل الكتابة للأطفال أسهل ام أصعب من الكتابة للكبار؟
الكتابة للأطفال أصعب بكثير.
فالطفل قارئ ذكي، حادّ الانتباه، لا يمنحك ثقته مجانًا. وإن لم يكن الأديب طفلًا من الداخل، فلن يستطيع الوصول إلى عالمه.
الإشكالية ليست في اللغة المبسّطة، بل في كيفية تقديم الفكرة بطريقة محبّبة وجاذبة، ضمن عالم مشغول بالوسائط البصرية والتطبيقات.
ذات يوم سألوني: لمن تكتب؟
فأجبت: “أكتب للطفل في التسعين.”
لأن الطفل يسكن في قلوبنا مهما تقدّم بنا العمر.
كيف يستطيع الاديب اليوم الوصول الى عالم الطفل المزدحم بالشاشات و الذكاء الاصطناعي؟
على الأديب أن يعرف جيدًا أن الطفل اليوم يتعامل مع عالم ديناميكي، سريع، محفّز بصريًا. إن لم يجد في القصة ما هو أجمل وأمتع مما تقدمه الشاشة، فلن يعيرها اهتمامًا.
تحدّثت عن الذكاء الاصطناعي وقلت إنه يروّج لفكرة: “لا تفكروا… أنا أفكر عنكم”. ما الذي يقلقك في هذا الواقع؟
الذكاء الاصطناعي يقدّم حلولًا سريعة ومغرية، ويقدم لهم الاجابات الجاهزة مهما تعقدت لكنه يسلب الطفل مهارة التفكير والتحليل إذا استسلم له. المشكلة ليست في التقنية بل في علاقتنا بها. علينا أن نعلّم أبناءنا أن الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة، لا عقلًا بديلاً. التفكير ليس رفاهية… إنه ضرورة إنسانية.
والسؤال المطروح هو ماذا لو اقدم مشغلو الذكاء الاصطناعي على ايقافه فماذا يفعل الاطفال و الكبار الذين لم يعودوا يحفظون الابداعات الشعرية و الحسابية ولا جدول الضرب حتى…
هل تتلقى اراء الاطفال حول ما تكتبه ؟ وهل يؤثرون في عملك ؟
بالتأكيد روايتي التي أكتبها الآن يقرأها حفيدي نادر رمّال البالغ من العمر أحد عشر عامًا. وهو ليس قارئًا عاديًا، بل ناقد صغير يكتب القصة أيضًا.
يأتي إليّ بملاحظات دقيقة:
“هنا يا جدو العبارة صعبة…”
“وهذه الفكرة تحتاج إلى شرح…”
أتعلم منه الكثير، لأن الطفل لا يجامل، و يطلب بشجاعة .
إنه المعيار الحقيقي لنجاح العمل الموجّه إليه.
ما الذي يجعل أدب الطفل مجالا مهما وضروريا اليوم ؟
لأنه أدب المستقبل.
الأطفال هم مشاريع مستقبلية واعدة ، وإذا لم نمنحهم أدبًا أصيلًا، تربويا هادفا وصادقًا، سيبقون فريسة للسطحية وسرعة الاستهلاك.
الأديب الذي يكتب للطفل لا يصنع حكاية فقط… بل يصنع إنسانًا قادرًا على التفكير والتمييز والحلم.
والأمم التي تهمل الطفل، تهمل مستقبلها قبل حاضرها.
تعتمد في قصصك على التراث الشعبي. ما الذي يدفعك إلى ذلك؟
لأن تراثنا غني بالرموز التي تحتاج قراءة جديدة. مثلًا: حدوة الحصان ليست لطرد الجن كما يظن البعض، بل هي رمز للفارس الذي قتل الأفعى. والخرزة الزرقاء ليست للحسد بل كانت تُستخدم للفت انتباه الكسالى. أنا أستعيد هذه الرموز لأمنح الطفل وعيًا جديدًا وقراءة أعمق لجذوره.
الحداثة قتلت الابداعات الشعبية لان الالات الزراعية حلت حيث غابت الحوارات والمواويل بين الناس واغاني لبيدر .
تحضر المراة في نصوصك كقوة مركزية كيف ترى هذا الحضور ؟
المرأة في كتابتي ليست شخصية، بل ذاكرة. هي الصمود، والحكمة، ومصدر الحكاية الأولى. تظهر كأم، كمقاتلة، كفلاحة، وراعية، لكنها دائمًا مركز الكون. هي التي تحفظ الأرض من النسيان، وتعيد تشكيل الأمل حين ينهزم كل شيء.
تستمد دائما قصصك من الطبيعة ؟
على الاديب ان ينسجم مع الطبيعة و المجتمع ليستخرج القصص النادرة و المهمة تربويا و انسانيا ليقدمها للأطفال ويحملها اليهم كما يحمل النحل الرحيق الى صغارها وكما يحمل الطير الحب ّ .
وهكذا مع الدكتور علي حجازي لم نغادر حوارًا عابرًا، بل عبرنا معه إلى تلك المساحات التي ينسج فيها أدبه: مساحة الطفولة التي تؤمن بالدهشة، ومساحة المرأة التي تحرس الذاكرة، ومساحة الوطن الذي يتنفس في نصوصه كما تتنفس أشجار الزيزفون في قبريخا.
وعرفنا ان الأدب ليس رفاهية… بل شكل آخر من أشكال المقاومة، ومقاومة الذوبان في عالم سريع لا يمنح الإنسان فرصة للتأمل أو لالتقاط أنفاسه!