
كريستيان بلان
كنّا صغارًا وكنّا نعتقد أنّ بعض الأمور ليست بقرار منّا ولا نملك القدرة للتّحكّم بها؛ خاصّة عند المرض وقد كان أبسطه حينها الزّكام: بعض الكحّة، سيلان الأنف وربّما حرارة مرتفعة، والأقصى يصل إلى التّغيّب عن المدرسة؛ أوه، وكم كنت أكره التّغيّب عن المدرسة؛ بينما في دارنا، كان المرض ممنوعًا، وإن حصل، وتكاسلنا تحت وطأة الوجع أو بالتّعبير الأصحّ عجزنا عن إتمام ما يطلب منّا بسبب المرض وما ينزله على المرء من آلام؛ أو إذا سُمِعَ أنين يناجي بعض الاهتمام والرّعاية، على الأقلّ من باب الواجب، أو إذا احتجنا من يذكّرنا بموعد الدّواء؛ إن حصل، يطلق جرس الإنذار: “٤٨ ساعة معك، لتتحسني” وكانت هذه العبارة كفيلة بلجم المرض وكبت المعاناة معه. أوه، ناهيك عن عبارة: “خدي دواك ونامي”؛ أو عبارة: “ما بك شي، قومي متل الشّاطرة”، وغيرها وغيرها…
فهمنا حينها، معنى المواجهة وحيدًا، وكيف أنّ الواحد منّا هو سلاح ذاته الأوحد. فجرى التّدرب على قمع الألم، والتّحكّم بمستوياته، وضبط إيقاعه، ووضعه في حالة الصّامت، فلا يزعج أحدًا. حتّى العطسة العفويّة أدركت أنّه يمنع عليها الخروج من الجسد، وأنّ صوتها المدويّ محكوم بالنّفي فالتزمت وصارت تتفجٍر بالدّاخل بصمت. وتمّت محاربة كلّ محاولة إنسانيّة تدعو لتحرير العقل من ضرورة السّيطرة على الأحداث الطّارئة والأمراض المستجدّة أو الحالات العابرة. تحكّم كامل يشمل كلّ المستويات لدرجة أنّ المرض بات عاجزًا عن الاستمرار، فاستسلم ورمى أسلحته، وأزال دفاعاته، ولملم عوارضه وانسحب إلى الخطوط الخلفيّة. وعمّ السّلام السّاحة الخارجيّة، ولم يهتمّ أحد بصراعات الدّاخل المنهزم طالما هناك يقف. ولو يقف منفردًا على حافة الانهيار، طالما لا يشكو، لا يمل، لا يعترض، لا يطالب؛ فليقف! وإن وقع وقع! لكنّ الخصم مخضرم، عدوّ شرس، متمرّس باللّعبة، خبيث ومنافق، أردناها معه حربًا صامتة، فكانت! خطّط فيها لانتصاره! فهوت واحدة وتلتها أخرى! لكنّ النّضال يستمرّ. إذ على الأقلّ نستقبل الموت وقوفا.