مي عاطف
أسير عبر درب تحيط به انواع مختلفة من الزهور والاشجار وروائح عديدة تختلط احيانا وتبدو مذهلة ، وأحيانا اشم كل واحدة على حدا ..ثم شممت رائحة زهرة نقلتني للمدرسة وأنا في الثالث الإعدادي ، أجتمع مع رفاقي في الصف (تقريبا الشعبة كلها ) في نهاية الدوام لأقنعهم متأثرة بالزميل دارون أن اصل الإنسان قرد ولسنا أبناء آدم وحواء وأن قصة نزولهما غير مقنعة ولا تمت للعلم بصلة
كان أستاذ الديانة شاب تجاوز الخامسة والعشرين ..اسمه للصدفة محمد وهو مدرس جديد في المدرسة ، كان قد مر نصف الفصل الأول فاعتاده الطلاب واحيانا يمازحهم ويمازحونه
ولأنه مدرس للديانة فقد أخذت منه موقفا مسبقا ، وما حدث أن زميل في الصف وكان يجلس أمامي و بعد مزاح بيني وبينه أثناء الحصة أن رفع يده وقال : أستاذ في واحدة عنا ما بتأمن بالله
*فنجر * الاستاذ محمد عينيه وسأل رفيقي : من ؟
أشار بيده للوراء أي إلي وقال : هي مي
وقف الأستاذ قرب الطاولة رمى من يده الساعة الواسعة على معصمه والتي غالبا تكاد تغطي كفه ، ثم شمر عن ساعده بطي كم البلوزة عدة طيات ، هيئته أعطتني فكرة عما يريد أن يفعل فالضرب وقتها كان مسموحاً به لا بل واجب ، فقلت في نفسي لو مد يده ليضربني سأمنعه وأمسكها ، فهو لا شأن له بإيماني .علاقته بي أن أكون ملتزمة في الصف ادباً ودراسة وجهزت نفسي للكفّ القادم الذي سأوقفه وليحصل ما يحصل .
كان يشمر وينظر إلي وقد تشكل رقم الحادي عشر ( مثل الغضب الناجم عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ) بين عينيه ونزل عن المصطبة سريعاً متجهاً إلي …. وقلبي شعرت اني سأتقيأه من شدة الخوف ..وقف بجانب مقعدي وسألني : لا تؤمنين بوجود الله ؟
ولعزة في نفسي اجبت : لا
وقد جمعت قوة في يدي لأرد عني كفه الذي توقعت
نظر إلي بتمعن ثم قال بصوت منخفض : صرنا اتنين
وعاد أدراجه لجانب الطاولة وهو يرجع كمه والساعة الواسعة ليده .. قلبي الواقف في بلعومي لم يعد لصدري بل كأنه غادرني وطار
بعد تلك الحادثة ..صار الأستاذ محمد صديقا لكل طالب وطالبة ، يُخرج كرسياً إلى الساحة فيجتمع الطلاب حوله وكنت منهم ليقرأ لنا الأشعار وبعضا من شعره الخاص
وصارت حصة الديانة …حصة للحوار والنقاش والأسئلة والمزاح
قبل أن ينتهي الفصل الأول ، دخل الأستاذ محمد بعيون متألمة وقف وقال : جئت لأودعكم جميعا لم أقوَ على مغادرة المدرسة دون أن اخبركم أنني احبكم جميعا وأنني تعلمت منكم الكثير ..ارجو ان أبقى ذكرى جيدة في بالكم
ثم اتجه صوبي وقدم لي كتاب الأجنحة المتكسرة كهدية منه ، وطلب مني أن اعيره لمن يرغب بقراءته من طلاب الصف
بعد حين علِمنا أن الإدارة لم يعجبها سلوكه ، وجاءت تهمته أنه شيوعي ولم نسمع عنه بعد ذلك
بدأت بقراءة الكتاب وأنا بالمدرسة ، وأنهيته خلال يومين ..ووضعته في غرفتي تحت مرأى عيني كلما رأيته تذكرت الأستاذ محمد
قطفت عودا من زهر العسلية ووضعته في الكتاب ، فصارت رائحتها تعني لي الأجنحة المتكسرة والأستاذ و رفاقي والمدرسة وتلك الحالة التي شعرت بها أنذاك والتي أعيشها كلما شممت رائحة زهر العسلية
ملحوظة : لا شأن لأحد بعلاقتي بالوجود أو الله ، شأنك فقط بعلاقتي معك واحترامي لك