ثقافية المدى
لطفية الدليمي
…………………………………………………………………………………………………………………..
ثمة أمور في هذه الدنيا تنتعش بها حياتنا كلّما استزدنا في طلبها. الحب مثلاً أو القراءة أو مساعدة الآخرين والتعامل بلطف وكياسة معهم
…………………………………………………………………………………………………………..
يتداول الامريكيون مثلاً شائعاً مفاده « أنك لن تأكل في غدائك أو عشائك أكثر من شطيرة همبرغر واحدة. قد تكون شطيرة كبيرة الحجم (مزدوجة)؛ لكنها تظلّ شطيرة واحدة في نهاية الأمر «. المثل الأمريكي هذا ينطوي على تفاصيل كثيرة، ولعلّ نظيره العربي – وإن إختلف معه في حمولته الدلالية التي تؤثِرُ الآخرة على الدنيا – هو المثل القائل أنّ ابن آدم لا يملأ عينه سوى التراب
أصلُ الاخلاق (ولا بأس أن نقول منبعها تمشياً مع الذكرى الطيبة للفيلسوف الفرنسي برغسون) موضوعة أعيت الفلاسفة واللاهوتيين وجعلت منهم فرقاً شتى بآراء متباينة. يرى معظم الفلاسفة أنّ الأخلاق تمثلُ تطلعاً سلوكياً لأفق علوي (ميتافيزيقي)، ولا ضرورة لأن تؤسس على نظام مكافأة دنيوية أو أخروية؛ بل أنّ المكافأة المرجوّة تفسدها؛ أما اللاهوتيون فيرون أنّ الأخلاق صناعة طبيعية للدين وإن كان واقعُ الحال يتطلب منا التصريح بأنّ كثرة من اللاهوتيين المعاصرين باتوا يميلون إلى جانب الفلاسفة في سياق مساءلة الأصول الأولى للوجود البشري
يبدو لي – من وقائع كثيرة اختبرتها بنفسي على مدى عقود طويلة – أنّ العديد من الموضوعات الفلسفية الاشكالية ستكون مقاربتنا لها أفضل وأكثر جدوى لو أرخينا قبضة قراءاتنا الفلسفية المسبقة على عقولنا ثمّ تفكّرنا في الموضوع بطريقة ذاتية لها قدرٌ من الاستقلالية الفكرية. سيعترضُ قائلٌ: هل أنّ تفكيرك سيقودك إلى آراء ووجهات نظر أفضل ممّا رأى سبينوزا أو لايبنتز أو هيوم أو الاسقف باركلي أو فلاسفة الأخلاق المعاصرين (بيتر سنغر) مثالاً؟ جوابي: لمَ لا !! نحنُ لسنا إزاء إجابات نهائية قدّمها هؤلاء في موضوعة تتطورُ باستمرار؛ ثمّ أنّ التطوّر العلمي المتعاظم جعلنا نمتلك معرفة يمكنها إعادة تشكيل رؤيتنا بطريقة قد تتخالف جوهرياً مع رؤى هؤلاء الفلاسفة. لايبنتز على سبيل المثال فيلسوف أعشق أعماله؛ لكنّ طالب ثانوية له شيء من معرفة في البيولوجيا الجزيئية قد يفكّر في أصل بيولوجي للأخلاق بطريقة أوقنُ أنّ لايبنتز كان سيندهش لو عرفها في عصره
ليس الترتيب التطوري للانسان مسألة عشوائية، وثمة شواهد عديدة في هذا الأمر: لو أكل الانسان أكثر من حدود محسوبة فسيُصابُ ببِطنة (تخمة) ستقطّعُ أحشاءه على المدى القصير، وفي المدى الطويل ستُسقِمُ جسده بشتى الامراض والعلل. يصحُّ الأمر كذلك مع المشروبات (كحولية أم غيرها). حتى الماء وهو أصلُ كلّ شيء حي يمكنُ أن يقتل أحياناً. هل سمعتم بالتسمم المائي؟ إنّ شرب أكثر من لتر من الماء كل ساعة سيجعل الكليتين عاجزتين عن تصريف الماء وسيحصل التسمم المائي لامحالة. كلّ الفعاليات الطبيعية للإنسان ذات الارتباط بوجوده البيولوجي (أكل، شرب، جنس، تدفئة وتبريد،،،) لها حدودها الطبيعية المصممة بذكاء.
يمكننا إذا ما تفكرنا في هذه الحقيقة أن نقتنع بأنّ «كلّ ممتلكاتنا المادية خاضعة لهذه الحدود الطبيعية «، وأنّ « هذه الحدود الطبيعية نتاج عملية تطورية وليست صناعة آيديولوجية أو دينية «، وأنّ « كلّ خرق لهذه الحدود الطبيعية سينتج عنه نظام عقابي لنا يتمظهر بهيئة علّة جسدية أو نفسية ستفسِدُ علينا حياتنا مهما بدت لنا زاهية أو جميلة ونحن منعّمون فيها بأطايب العيش ولذائذه «.
في المقابل ثمة أمور في هذه الدنيا تنتعش بها حياتنا كلّما استزدنا في طلبها. الحب مثلاً أو القراءة أو مساعدة الآخرين والتعامل بلطف وكياسة معهم
أساس الموضوع هنا له جذر بيولوجي يختصُّ به نظام المكافأة في أدمغتنا البشرية. المال – مثلاً – يمكن أن يصبح في حالات معينة مثل الهيروين الذي يوردُ صاحبه موارد التهلكة عندما يوقعه في شباك الطلب الذي لايشبع إلا بطلب أكبر، ولن تتوقف يوماً هذه السلسلة اللانهائية اللعينة إلا بموت صاحبها أو بإعادة تشكيل نظرته إلى الحياة؛ لكن في المقابل هل سمعتم بأحدٍ قتلته القراءة؟ هل سمعتم بأحد قتله حب الناس والرغبة في مساعدتهم؟
قد يفرح كثيرون بمال سائب يجري خفيفاً بين أيديهم، وماعرفوا أنهم كلما أوغلوا فيه سرقةً إنما يضيّقون عليهم حبل المشنقة التي ستخطف أنفاسهم. هم سيقتلون أنفسهم بأيديهم
ما أسعده كلّ من عرف هذه الحقيقة وعاش حياته خفيفاً طلِقاً مبرّءاً من كلّ مايمرِضُ العقل والجسد والروح
فلنتذكّرْ أنّ خطواتنا الثقيلة على أديم هذه الأرض تفسِدُ جوهرنا الأخلاقي. هذا هو رأس الحكمة التي ستقودنا إلى الأخلاق بشكل طبيعي هادئ. سنكتشفُ الأخلاق المخبوءة في تكويننا الجسدي بدلاً من أن يتصدّق بها علينا أدعياء مزيّفون ومعلّمون جهلة ودعاة فضيلة زائفة